يرى كثير من (أغلب/كل؟) النساء أنه لا يقدر على مجابهة كيد المرأة أفضلُ من امرأة مثلها؛ هل يصلح ذلك مدخلاً للنظر في علاقة حواء بحواء من منطلق "الضدّيّة"؟
في الواقع ذلك مدخل لا بأس به ولكنه لا ريب ليس المدخل الوحيد، فالمرأة تقف في مواجهة المرأة ليس فقط في مقام فضّ كيد إحداهنّ ضد الأخرى وإنما في كثير مما هو دون ذلك من المناوشات، وبطبيعة الحال في العديد من المواقف التي يتجاوز فيها الكيدُ الأنثوي حدودَ الغمز واللمز العابرَين إلى ما يكاد يكون سبباً في نشوب حروب طاحنة مختلفة الأشكال والألوان وصولاً إلى المراد حرفياً بالحرب التي يتورّط فيها الرجال وحدهم، أو – للدقة - يدفع ثمنها الباهظ من الدماء الرجالُ بصورة أساسية؛ وليس في ذلك مقصد لـ"شيطنة" حواء قدرَ ما هي إشارة إلى ما يمكن أن يدركه كيدُها من المَبالغ الخطيرة؛ وآدم على كل حال ليس أهون من حواء عندما يتعلّق الأمر بالمَبالِغ الفتّاكة من الدمار، فالاختلاف بين الجنسين متعلّق بالوسيلة في حين تظل النتيجة واحدة عندما يعقد الإنسان العزمَ على مجانبة الخير بصرف البصر عن كونه رجلاً أو امرأة.
نرشح لك:محال للشئون القانونية.. تفاصيل تهديد موظف بحرق نفسه في جامعة عين شمس
"المرأة أسوأ من يقود السيارة" عنوان الفصل السادس عشر من كتاب "ضد النساء" الصادر عن الدار العربية للعلوم ببيروت سنة 2012، ترجمة وتعليق حمد العيسى. الفصل يتضمّن مقالاً مترجماً للكاتبة الأمريكية كلوديا بيكولت "المعروفة بمناهضة الحركة النسوية المتطرفة" كما يقول المترجم في تقديمه للمقال. تقول كلوديا: "كيف نفسّر وجود اعتقاد شعبي خاطئ عندنا معشر النساء في الولايات المتحدة بأن المرأة أفضل قيادة للسيارة من الرجل؟ حسناً، هذا الاعتقاد يستند – جزئياً – إلى بيانات (Data) مضللة ظاهرياً من شركات التأمين لم يتم تحليلها بصورة عميقة. فقد أثبتت دراسة حديثة أن سبب هذا الاعتقاد الخاطئ هو أنه عند وقوع الحوادث فإن الرجال هم في الواقع أكثر تقديماً للمطالبات (Claims) من النساء للتعويض من شركات التأمين، وبالتالي من الطبيعي أن تكون أكثر بيانات الحوادث عند شركات التأمين رجالية. وعلى مدى سنوات عديدة ساد هذا الافتراض الخاطئ أن النساء هن الأفضل في قيادة السيارة، بسبب العدد الأقل من المطالبات التأمينية طبعاً وليس بسبب مهارتهن".
تواصل كلوديا بيكولت بعد بضع فقرات: "مع كل هذه الأدلة، فمن الواضح أن الرجال هم أفضل قيادة من النساء، وأن المرأة لا تملك بعض الإمكانيات الجوهرية لتفعل الأشياء التي تستلزم القيادة (أي مثل هرمون التستوستيرون). هذه النتيجة ليست بياناً عنصرياً للتمييز بين الجنسين، ولكنها مجرد حقيقة علمية تدعمها الأدلة في العديد من الدراسات التي درست قيادة المرأة من زوايا مختلفة".
لست من المؤمنين إيماناً عميقاً بنتائج مثل تلك الدراسات التي تشير إليها السيدة بيكولت، ولكن مهما يكن فإن المراد من الاقتطاف ليس إثبات أن المرأة أقل كفاءة من الرجل في قيادة السيارة أو غيرها من المهارات وإنما الاطّلاع على واحدة من الحالات التي تقف فيها حواء في مواجهة حواء، وهي هنا الحالة التي تغدو فيها واحدة من النساء ضد النساء جميعاً، وإن تكن الدقة تقتضي التنويه بأن كلوديا بيكولت – كما يشير المترجم – ضد "الحركة النسوية المتطرفة" تحديداً.
الحالة التي تغدو فيها امرأة تتصرّف كما لو كانت ضد (سلوك) النساء جميعاً ليست شائعة، وإن يكن ليس من العسير في الوقت نفسه الوقوع عليها. المرأة تعرف ما يمكن أن يُعدّ تطرّفاً في انفعالات النساء وسلوكهن، لكنْ أنْ تبلغ إحداهنّ من الضيق ما يدفعها إلى المجاهرة بذلك واتخاذ موقف مناهض لبنات جنسها يُعدّ خيانة بكل مقاييس النساء على الأرجح. ولكن من الجدير الانتباه إلى أن المرأة المعادية لانفعالات وسلوك بنات جنسها بصفة عامة لا تتخذ موقف المقاطعة بحيث تستغني عن علاقاتها بالنساء قدرَ ما تبدو كما لو كانت تقود حركة تصحيحية من الداخل، فهي في الغالب تحافظ على علاقات اعتيادية – بل قوية أحياناً - مع النساء في معظم مجتمعاتهن، ولكنها تجنح عادة إلى تأكيد رأيها ضدّهن بمزيج من المناوشة والمراوغة وربما التودّد أيضاً.
ما سبق (تطرّف إحداهنّ في مواقفها المنهاضة بشكل أو آخر للنساء) إذن حالة شديدة الخصوصية لـ "حواء ضد حواء"، وإن تكن ليست شديدة الندرة، فلولا تواضع النساء التلقائي على إبقاء الخلاف الأنثوي سرّاً في مجالسهن لغصّت فضاءات الرجال بتفاصيل لا تنتهي تحمل من تجلّيات الضيق والمشاحنات الأنثوية الخالصة ما يفوق ذلك الذي يكنّه الرجال في صدورهم ومجالسهم المغلقة تجاه خصمهم الوجودي التقليدي.
الحالة النموذجية لـ"حواء ضد حواء" هي تلك التي لا تتضمّن تعقيداً فلسفياً أبعد من أنثى حانقة على أنثى لسبب خطير أو حتى سطحي ولكن بالغ الاستفزاز؛ عندها تبلغ براعة حواء في التعامل مع أشكال الدهاء وألوانه أرفع صورها، فمجابهة حواء آدمَ وحده على أي صعيد لا تتطلّب منها أن تستخدم سوى جزء يسير من مكرها، في حين أن مواجهتها أيّاً من بنات جنسها – فرادى أو مجتمعات – تستدعي اللجوء إلى مخزونها الاستراتيجي من الدهاء والكيد، وحين يكون آدم طرفاً في المعركة الأنثوية – لا سيما عندما يكون هو موضع التنازع – فإنه لا حرج لدى حواء من استنفاد مخزونها الاستراتيجي الكيدي برمّته؛ وإن يكن جديراً بالتنويه أن روعة الدهاء الأنثوي تكمن في كونه بمثابة الفيض المتجدّد الذي يصعب أن ينضب في أيٍّ من الأوقات.
ماذا يحدث عندما تكون المعركة الأنثوية الصرفة في مجتمع مغلق من النساء: بيئة عمل أنثوية خالصة على سبيل المثال؟ يتخيّل آدم على الأرجح أن المكان سينفجر بتأثير معارك كيدية تتجاوز الخيال؛ وإذا كان الدهاء الأنثوي قد يكون حينها بالفعل في بعض أشدّ حالاته توهّجاً، فإن حواء من الفطنة بحيث تدير تلك "الحرب" دون أن تدع ضجيجها يمتدّ بشكل لافت خارج ميدان المعركة بحيث يُشمت بها خصمها الوجودي التقليدي الذي يدير بدوره (بقدر أقل من الدهاء؟) معاركه الأشد ضراوة وهو ينسب شرورها إلى الجنس البشري مجملاً لا إلى الرجل بصورة أساسية.
للتواصل مع الكاتب: