سقطت تفاحة على رأس نيوتن، كان أمراً عاديا ومتكرراً أن تسقط ”ثمرة“ على رأس أحدهم، لكن ما فعله نيوتن أنه تعامل مع الموقف بشكل غير عادي، كان يمكن تجاهل الموقف كله، كان يمكن أن يأكل التفاحة مبتسماً من المصادفة الجميلة أن تهديه السماء ثمرة طيبة، وينتهي كل شيء عند تلك الفكرة!
لكن ما حدث أن نيوتن قرر تحويل الموقف إلى دراسة وفكر تفكيراً إبداعياً مما حول الموقف إلى إعادة اكتشاف وفهم الكون! لقد غيرت قوانين نيوتن فهم العالم في ذلك الزمان، وأعادت اكتشاف وتفسير كل شيء من جديد، وبالتالي نشأت علوم وتطبيقات وصناعات لم تتوقف حتى الآن.
هذا ما تفعله طرق التفكير الإبداعية وهذا ما تفعله الصناعات الإبداعية في العالم، كلما أضاف الإنسان فكرة جديدة وطريقة جديدة للتطبيق الإبداعي نشأت صناعات واقتصادات جديدة وتغير شكل الحياة.
من كان يصدق أن شاباً أحب فتاة وأراد أن يتابع أخبارها فأنشأ موقعاً إلكترونيا للتواصل الشخصي قد يغير شكل التواصل في العالم كله بين العائلات والأصدقاء والمحبين؟ هذا ما فعله الفيس بوك
تمثل الصناعات الإبداعية نسبة تتراوح بين 3.1% إلى 6% من حجم الناتج المحلي العالمي، مع توقع لتزايد ”الاقتصاد الإبداعي“ بنسبة قد تصل إلى 50% من قيمته الحالية في عام 2030.
لو نظرنا للأمر فإن المصطلح نفسه ”الاقتصاد الإبداعي“ لم يكن حاضراً على ساحة الأعمال الدولية قبل عشرون عاماً من الآن، لكن المتغيرات العالمية التي حدثت في الجانب التقني والإبداعي غير طبيعة التعامل مع الصناعات الإبداعية وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تتحدث عن ”صادرات إبداعية“ بقيمة ٣٢ مليار دولار في حين بلغ الاقتصاد الإبداعي في الولايات المتحدة في عام 2021 نحو 4.4% من الناتج المحلى الإجمالي، أي ما يقدر بنحو 1 تريليون دولار، أما الصين فلازالت هي المصدر الأكبر عالميا ”للصادرات الإبداعية“ بحجم صادرات يصل إلى ١٦٩ مليار دولار. (المصدر: الهيئة الوطنية للإعلام نقلا عن تقرير مركز معلومات رئاسة الوزراء عن الاقتصاد الإبداعي).
نحن نقف الآن أمام معلومات هامة وتحول كبير، لأننا للمرة الأولى نقف أمام مصطلح جديد يضع توصيفات وأشكال جديدة للسلع ويصنف بعض السلع والخدمات بأنها منتج إبداعي .. وهنا يظهر عدة تساؤل عن دور الرؤية في الصناعات الإبداعية!
لقد وقف الإنسان الأول مع الفن وقفة المتأمل والصانع، نحت الإنسان الأول الكهوف، ورسم على جدرانها وصنع التماثيل وشيد المعابد ثم رسم على جدرانها، وابتكر الكتابة بالرموز والصور ثم ابتكر الحروف واكتشف الترجمة ونظم الشعر وألف المسرحيات والقصص وصنع أدوات الموسيقى.. منذ القدم وحتى اليوم لم يتوقف الإنسان عن ابتكار أشكال متجددة من الفنون والثقافات والإبداع، ولكن هل تكفي القدرة على ”الصنع“ لتحويل الفن إلى ”صناعة؟“ هل يمكن تحول الصنعة إلى صناعة.
ماذا ينقص الموهوب والمحترف ليتحول من الاحتراف إلى المهنية التي تضيف لمجاله صبغة الصناعة؟
فن مثل الخط العربي مثلا، كيف يتحول من احتراف وصنعة ماهرة إلى صناعة لها قوانينها ولها من يحميها ومن يدافع عنها ومن يطورها قبل أن تنقرض؟ من ينقل الخبرات المهنية والتراكمية من أهل الصنعة القديمة إلى شباب الصنعة الجديدة؟ ومن يعمل على تطويرها وتحويلها من صنعة وحرفة إلى صناعة لها بيانات وتوجهات وقادرة على المنافسة مع أشكال الفن المعاصر؟
كيف يواجه قلم مصنوع من البوص سرعة البروسيسور والدقة المتناهية لكل ”بيكسل“ في برنامج رسم وتصميمات على جهاز كمبيوتر متقدم ؟ هل يمكن أن يفوز الخيال الذي يمتلك خيل عربي أصيل في سباق مع سيارة فيراري؟
إن المواجهة بين الخيل والفيراري ظالمة، طالما أن الخيال فكر في السرعة فقط، لأن الخيّال يمتلك حرفة وصنعة ومهارة ركوب الخيل، لكن الدفع بعقل ذو رؤية إدارية حديثة، سيجعل من ذلك الخيل والخيال رمزاً لسيارة فيراري! وسيقدم سباقات الخيل في شكل متكامل مع الروح المعاصر للمدنية وسيحول ركوب الخيل وتجارة الخير إلى صناعة بدلا من أن تكون مقارنة.
ما تحتاجه الصناعات الإبداعية هو الرؤية، لأن الحلول كثيرة، والمناهج في حل وتسيير الأعمال لا حصر لها، والتعامل مع الصناعات الإبداعية بطريقة التطوير الذي يدفع المهنة للإمام لن يؤدي إلى شيء لو لم توجد رؤية جامعة ومتخصصة تدفع الأمر من مرحلة المهنة إلى مرحلة المنافسة العالمية.
وتلك الرؤية لو توافرت فإن التطوير والمهنية والحرفية وأهل الصنعة سيضطرون إلى التطوير قبل أن ينقرضوا مثل مهنة صانع الطرابيش.