لم تكن لياقتنا ولا قدراتنا النقدية أيام الجامعة تسمح بما يتجاوز أن يجادل كلٌّ منّا انطلاقاً من عاطفة أدبية جيّاشة وهو يذود عن وجهة نظره في تقديم شاعر وتأخير آخر على غير – أو حتى عكس - ما يراه الآخرون عندما يحتدم النقاش، وما أكثر حالات الاحتدام على كل صعيد في عنفوان الشباب.
كنت الشاعر التقليدي الوحيد تقريباً بين زملائي من شعراء الجامعة في مختلف كلّياتها. الأدق أنني كنت الحالة الوحيدة (غريبة الأطوار؟) الموغلة في كلاسيكيتها رجوعاً إلى تقاليد الشعر العربي الغنائي العتيقة، وكان ذلك على الأرجح مما يمنح بقية زملائي من الشعراء الكرام فرصة أن ينعموا بإحساس هو مزيج من الزهو بنجاتهم من هذه الجاهلية الأدبية والإشفاق على زميلهم من مغبة ما ينتظره مستقبلاً وهو يغذّ خطاه الأدبية بثقة قروناً إلى الوراء.
نرشح لك: زارها حسن الصباح في "الحشاشين".. أبرز المعلومات عن مدينة سمرقند
ونحن نتجاذب أطراف الشِّعر خلال إحدى الجلسات الجانبية لأحد المهرجانات الأدبية للجامعات المصرية على مستوى الجمهورية أوّل التسعينيّات الماضية، بادرني زميل عزيز وأنا أمسك بالشوقيات كطفل يحتضن لعبته الأثيرة مستفسراً في شيء من الاستنكار اللطيف عن سبب تعلّقي إلى ذلك االمدى بالديوان؛ أجبته – في ضوء مقارنة تقليدية مع المتنبي - بأن شوقي شاعر عظيم جدّد أيضاً على طريقته الخاصة في الشعر العربي، فردّ عليّ زميلي في تحفّظ واضح وهو لا يزال يستحضر المتنبي: "أيوا، ممكن ، بس على قدّه". حينها، بدا لي مدى سطوة المتنبي على تاريخ الشعر العربي وعشّاقه، فها هو شاعر مصري من الشباب المتحمّسين لبلادهم ولسلطانها الأدبي والإعلامي يستكثر على شوقي أن يُقارَن إنجازُه بأثر المتنبي في بلاط الشعر العربي، مكتفياً بتقليص تأثير أمير الشعراء إلى كلمتين بهما من الاستخفاف أكثر مما بهما من الإقرار.
سنرى في مقال مستقل إن شاء الله كيف أن المتنبي جدير بالفعل بكرسيّه الذي لا يزال يعتليه في مملكة الشعر العربي، ولذلك بضعة أسباب وعوامل متداخلة بعضها عام ينطبق على كل حالات البارزين الأشدّ تأثيراً في كل مجال، وبعضها خاص بحالة المتنبي تحديداً.
أمّا على صعيد استقراء العوامل الشعرية الفنية المحضة، فلم أتزحزح عن رأيي القديم حول مكانة شوقي الفريدة في الشعر العربي التقليدي، بل بتّ أشدّ ارتياحاً وثقة للذهاب آماداً أبعد لتأكيد تلك المكانة بتتويج الرجل على مملكة شعرنا الغنائي الكلاسيكي تتويجاً مطلقاً أو شبه مطلق إذا كان لا بدّ من اختيار شاعر بعينه أميراً أو ملكاً أو سلطاناً على ذلك البلاط استناداً إلى الجدارة الفنية الخالصة لا أكثرّ ولا أقلّ.
من الحكمة ابتداءً التذكير بأن كل شاعر بارز يملك أسلوبه المتميز وخصوصيته المستقلة، وأن علوّ كعب أيٍّ من الشعراء في ناحية – في ضوء أية مرجعية نقدية - لا يلغي عُلوَّ كعب غيره في ناحية أخرى؛ وإجمالاً لا يزال الحُكم القاطع في أية قضية فنية مسألة عسيرة التحقّق، بل مستحيلة بما يجعل أحكامنا النقدية جميعها مستندة إلى رؤى لا يمكن أن تبارح النزعاتِ الشخصية مهما يدّعِ أو يحاول أصحابها جاهدين التجرّدَ والحياد.
تماماً مثل القاضي في المحكمة وهو ينظر في أية قضية، ومهما تكن حيثيات الحكم من حيث المتانة والانضباط، فإن ضمير القاضي هو أداته الأساس لإصدار حكم منصف؛ والضمير هنا لا يُقصد به تحرّي القيم والمُثل في القول والفعل كما هو شائع بل يعني الاستعداد النفسي الفطري إلى التمييز بين الفاسد والصالح من الأشياء على اختلافها وإصدار الحكم عليها من ثم؛ ويبقى الضمير ذاته خاضعاً لما يحيط به من مؤثرات بحيث يتعذّر الإنصات إلى صوت الضمير الخالص إلّا من قِبَل صاحبه بحسب ما يمتلك من حظ القدرة على المواجهة الجريئة مع الذات.
ضميرنا النقدي وحده – سواء أكنّا نقاداً محترفين أم من عامة جمهور المتابعين – هو ما يعيننا على أن نُنزل أحكامنا بأعلى ما يمكن من درجات الإنصاف على العمل الأدبي وصاحبه وعقد المقارنات من ثم قياساً إلى الأعمال الأخرى وأصحابها من المبدعين؛ فأيُّ ثوبٍ نقدي هو في الواقع قابل لأن يدخل في ما لا يُحصى من الأعمال الإبداعية مهما يبدُ مُحكَم التفصيل خصيصاً من أجل عمل إبداعي بعينه.
بذلك في الاعتبار، يمكن أن يُقال في حق العديد من الشعراء ما يُساق لتبرير أحقية شوقي باعتلاء ذروة الشعر العربي الغنائي التقليدي، بحيث يبقى الضمير النقدي وحده هو الذي يحكم بتطابق حيثيات الحكم مع الشاعر المستحق للتتويج؛ وكما أسلفنا الإشارة فإن ما يجعل هذه المهمة صعبة هو تعذّر الإنصات إلى صوت الضمير النقدي بمنأى عمّا يحيط به من مشوّشات ومؤّثرات لا تُحصى في سياق عابر.
قدِم شوقي إلى مملكة الشعر العربي التقليدي بعد حوالي خمسة عشر قرناً انصرمت على تأسيسها، فكان ذلك الزمان الممتد وحده كفيلاً بإضفاء هالات القداسة الأدبية على من سبقه من فحول الشعراء عبر القرون، وهو ما حدث بالفعل، ولصالح المتنبي بصفة أشدّ خصوصية. غير أن شوقي استحق التتويج لهذا السبب بصفة خاصة ضمن جملة من الأسباب الفنية الموازية، فعبء القرون ضاعَفَ التحدّي على شاعر العصر الحديث الذي كان عليه أن يقتحم جلال التاريخ ويقارع شعراء العربية الغابرين أجمعين بلغتهم التي كانت أقرب كثيراً إلى ألسنتهم حينها وأدنى بوضوح إلى أنماط عيشهم في تلك الأزمنة السحيقة قياساً بما أضحى الحال عليه في العصر الحديث حيث بات اللسان العربي الفصيح أشدّ تنائياً عن ألسنة الناس الجارية في حياتهم اليومية، دع عنك أساليب عيشهم التي لا تمتّ بصلة ذات بال إلى الخيمة والناقة والسيف والرمح بل حتى غيرها من تجليات القيم المعنوية المحضة التي صاغها الشعر العربي الغنائي وضاغته على قوالب تلك القرون الغابرة.
أذاب شوقي كل تلك البلاغة الشعرية القديمة التي تشكّلت عبر العصور ثم عاد فصبّها في قالبه الخاص الذي صاغه على نمط العصر الحديث فانسابت في سلاسة متناهية إلى جمهور هذا العصر وطارحت في الوقت نفسه البلاغة العربية القديمة التي استلهمتها فجاوزتها؛ وليس في ذلك حطّ من قيمة الشعراء الأقدمين بحال وإنما هو أمر من المفترض أن يكون طبيعياً ومنطقيّاً، فمَن يأتي حديثاً يقرأ تجارب من سبقوه لا ليقف عاجزاً أمام روعتها وإنما ليتجاوزها مفيداً منها ومما أصبح غنيمة فكرية ومعنوية بين يديه من الخبرات والعلوم الحديثة على اختلافها لا في إطار آداب اللغة العربية وحدها.
لم يكن شوقي موسوعي الثقافة عميق القراءة للتاريخ فحسب، بل عرف كيف يدَع استيعابَه العميق للتاريخ وثقافته الموسوعية ينسربان بتلقائية آسرة إلى شعره بحيث يغدوان جزءاً أصيلاً من نسيج ذلك الشعر لا قِطَعاً متناثرة مُقحَمة بداعي استعراض معلوماتي أو معرفي من أي قبيل.
طرَقَ شوقي كلَّ أبواب الشعر الغنائي تقريباً فسما في كل ما طرقه أفكاراً ولغةً وأسلوباً وسلاسةً من حيث انسياب موسيقى الشعر وغزارةً في الإنتاج وتنوّعاً عريضاً في طبيعته وتجديداً في التناول واتّساقاً مع طبيعة العصر واقتحاماً لذائقة الخاصة والعامة من المتلقّين، إلى آخر ما يمكن أن يحيط به شاعر غنائي عربي كلاسيكي.
أعود مجدداً فأذكّر بأن كل ما سبق من الممكن أن يسحبه من يشاء من النقاد أو المعجبين ليضعه على من يؤثره من الشعراء المبدعين، ولكن تبقى الذائقة الجمالية المصغية إلى الضمير النقدي وحده هي القادرة على إلقاء الحكم الأدبي بأعلى ما يتسنّى من درجات الإنصاف؛ ومن الحكمة ألّا نزايد في المباهاة بتجرّدنا النقدي انتصاراً لأيٍّ من المبدعين، فسطوة المشوّشات التي تؤثر على صفاء ضمائرنا النقدية عظيمة، وأشهر المشوّشات تأثيراً هي سلطةُ القديم على الجديد، تلك السلطة المستترة والقاهرة في آن معاً.