بينما يتوق الرجل عادةً إلى إنهاء أية مناوشة/مشاجرة مع المرأة، فإن الأخيرة لا تكون بالضرورة مستمتعة بالمعركة ولكنها تصرّ على أن تخوضها حتى النهاية كما لو كانت بصدد الدفاع عن قضية مبدئية، وذلك بصرف البصر عن طبيعة المعركة وبواعثها.
أمّا "النهاية" هذه، نهاية المناوشة/المشاجرة/المعركة، فهي حديث ذو شجون من وجهة نظر حوّاء؛ أو لعلّها كذلك بالنسبة إلى آدم وهو يطالع قدرة خصمه الوجودي التقليدي المدهشة على الاستمرار في (الاستمتاع بـ؟) امتداد أية مناوشة/مشاجرة/معركة مع آدم إلى أجل غير مسمّى، وربما إلى "لانهاية" بالنظر إلى ما يظل يعتمل في وجدان حواء من ذكريات مناوشاتها الأزلية مع آدم.
تفتتح فوزية الدريع كتابها "الرجل الحيوان"، الصادر عن منشورات الجمل بكولونيا وبغداد سنة 2008، بالنفي القاطع التالي: "كلا.. كلا.. كلا... هذا الكتاب ليس إهانة للرجل. هذا الكتاب في أغلبه مدح للرجل. وهو محاولة جديدة لفهم الرجل بهدف أن تعيش معه المرأة بسلام، بسعادة وبتعاون... هذا الكتاب ليس تهريجاً وفنتازيا بحتة، لكنه دراسة تعكس مرحلة فكرية عندي ترى الكون بشمولية أكبر وتُخرج الإنسان من قوقعة جنسه البشري إلى عامل أوسع".
ولكن، للدقة، الذي يخرج إلى العالم الأوسع في الكتاب ليس الإنسان عامة وإنما الرجل بصفة خاصة، والعالم الأوسع ليس سوى عالم الحيوان تحديداً.
في الجزء الأخير من الكتاب (خلاصة ثرثرته بحسب تعبير المؤلفة) تقول الدكتورة فوزية الدريع: "إن الهدف الرئيسي هو رصد هذا السلوك (الحيواني) لتسهيل كيفية التكيف والتعامل مع الرجل من قِبل المرأة بشكل رئيسي. وهو كذلك أشبه بدليل حتى يفهم الرجل نفسه. إنها توصيفات ودليل بيد المرأة لتفهم: الحصان الذي في بيتها؛ البعير الذي ستتزوجه؛ أو الذئب الذي تعمل معه، إلخ من نماذج رجال يحملون صفات شخصية لحيوان ما. سنعرض هنا 50 نموذجاً فقط. اختيار وترتيب هذه النماذج جاء من اعتقاد شخصي بكون هذه النماذج أكثر وجوداً بين عالم الرجال... ونؤكد أن هناك نماذج من الرجال بقدر الأنواع في عالم الحيوان، بل بقدر أنواع النوع مثل القرد البامبو، الغوريلا، إلخ في عالم القرود؛ فإن لم تجدي شخصية الرجل الذي عندك اذهبي إلى حديقة الحيوانات وراقبي فما هي في النهاية إلا حديقة إنسان". بعدها يتم استعراض النماذج بالتفصيل، بحسب وجهة نظر المؤلفة؛ نماذج من قبيل: "شخصية الرجل الحصان"، "شخصية الرجل الحمار"، "شخصية الرجل الكلب"، "شخصية الرجل القط"، "شخصية الرجل الأسد"، "شخصية الرجل الخروف"، "شخصية الرجل التيس"، "شخصية الرجل البعير"، "شخصية الرجل الثعلب"، "شخصية الرجل الأرنب"، "شخصية الرجل الثور"، "شخصية الرجل السلحفاة"، "شخصية الرجل الفأر"، "شخصية الرجل البومة"، "شخصية الرجل نقار الخشب".
الدراسة تنطلق من وجهة نظر شخصية، لكنها من أستاذة جامعية متخصصة في علم النفس؛ وقائمة المراجع تضم العديد من الكتب التي تبدو رصينة (في دراسات علم وعالم الحيوان تحديداً). مهما يكن، فإن الجدير بالالتفات إليه أن الدراسة لا تخلو من الطرافة/الجِدّة على النطاق العربي، والأجدر بالانتباه أنه بنفس القياس/الاستقراء/الاستنباط يمكن الوقوع على نماذج شخصيات المرأة المقابلة من عالم الحيوان. من المهم أخذ ما سبق في الاعتبار حتى تتم قراءة الكتاب دون انفعال زائد وبروح محايدة قدر الإمكان، على الرغم من أن الانفعال (الزائد عادةً) يبدو كما لو كان السمة الغالبة على العلاقة بين آدم وحواء على مرّ الزمان.
بعيداً عن الغرض من ذلك الكتاب وغيره ممّا يمكن أن يشكّل هجوماً مباشراً أو غير مباشر من حواء على آدم أو العكس، فإن المعركة بين أشهر خصمين وجوديّين هي معركة سرمدية، وذلك كما أشرنا سابقاً في أكثر من سياق مستقل دون أن نُعنى بالإجابة على السؤال عن أيّهما المسؤول عن استمرار المعركة وعن إشعالها ابتداءً؛ ومن الحكمة ألّا نلهث خلف إجابة قاطعة ليس في الإمكان الإمساك بها، ولكن من المفيد – وربما من الممتع بصورة موازية – أن يتم نبش تفاصيل أكثر العلاقات ثراءً بالمواقف الدرامية المشتعلة لاستثارة المزيد من الأسئلة والتبرّع بالمزيد من التعليقات والإجابات المحتملة وليست القاطعة بحال.
لماذا ترى حواء إذن أن كل مناوشة/معركة مع آدم بمثابة المهمة النبيلة؟ تبدو الإجابة متعلقة بإحساس "الضعف الأنثوي" الذي ينتاب/يلازم حواء والذي ترى نفسها بسببه كما لو كانت مضطلعة بمهمة نبيلة لمناصرة طرف مظلوم باستمرار، وتكتسب المهمة قدراً رفيعاً من النبل لأن ذلك المظلوم السرمدي هو "هي" شخصياً وليس أي طرف آخر.
سيكون طبيعيّاً أن يسوّغ نبلُ المعركة لحواء استخدامَ كل الأسلحة التي في حوزتها للدفاع عن نفسها، وبعض تلك الأسلحة فتّاك؛ لكن حواء لا تميل دائماً إلى أن تذهب في استخدام أسلحتها وراء ما يكفي لتجنيبها خسارة المعركة التي هي بصددها، وهي في الوقت نفسه لا تتورّع عن أن تبلغ في استخدام أي سلاح ما يكفل لها النصر القاطع إذا رأت أن آدم يظهر مقاومة مستميتة، وإن تكن في كل الأحوال تفضّل أن يخرج خصمها الوجودي سليماً من المعركة، ولكن وهو يقرّ بالهزيمة/الاستسلام، إن لم يكن بلسان المقال فعلى الأقل بلسان الحال؛ فإذا كان آدم بالغ العناد/المكابرة فلا غضاضة من منحه فرصة الزهو بنصر مؤقت (زائف؟) ترقّباً للإطاحة به بضربة قاضية في جولة لاحقة من المعركة السرمدية النبيلة.
للتواصل مع الكاتب: