لا تزال المقولة القاضية بأنّ "أفعل التفضيل" لا تجوز في تقييم الإبداع الأدبي والفني تلقى رواجاً لافتاً، وهي مقولة تملك فيما يبدو سحرها الطاغي، إذ تتضمّن كلمة حق بالنظر إلى خصوصية كل عمل إبداعي ومكامن جماله الفريدة، وبالنظر كذلك إلى نسبية الآراء بصفة عامة وعلى صعيد التذوّق الجمالي على وجه الخصوص. بذلك تمنح المقولة كلَّ مبدع شرعية أن يزهو بإبداعه مهما يكن شأنه ويطاول به غيره من الأعظم شهرة ومكانة. غير أن المقولة في المقابل كثيراً ما يُساء استخدامها فتغدو كما لو كانت دعوة إلى "اشتراكية أدبية"، أو - للدقة – "اشتراكية في المكانة الأدبية"، بحيث يتقاسم كل المبدعين منزلة سامية رجوعاً إلى قيمة الإبداع المبجّل مجرّداً وليس استناداً إلى تقييم كل عمل لكل مبدع على حدة.
أوافق بالفعل على أنه ليس من الحكمة التسرّع نحو إطلاق الأحكام النقدية التفضيلية، ولكن في الوقت نفسه لا يجب تهيّب إطلاقها إذا اطمأنّ الناقد إلى أن ثمة من هو جدير بها من المبدعين أو ما يستحقها من الأعمال الفريدة. النقد ابتداءً هو فحص الأعمال الإبداعية بغرض تقييمها، بل بغرض تمييز الحسن من الرديء تحديداً كما في المفهوم العربي الكلاسيكي رجوعاً إلى الأصل اللغوي للكلمة؛ وتمييز الحسن/المحاسن من الرديء/العيوب لا يعني تصنيف الأعمال الإبداعية إلى قسمين فحسب: حسن ورديء، بحيث تتساوى كل الأعمال داخل كل قسم، وإنما يستوجب ذلك أن يكون ثمة معايير لتحديد تفاوت الجودة وتباين الرداءة، والأرجح أن تلك من مهام الناقد الدقيقة التي تتصدر وصفه الوظيفي؛ ومن ثم نشأت مؤلفات المفاضلة بين الأعمال الأدبية وأصحابها واحتلت حيّزاً عريضاً من المشهد النقدي العربي القديم لأمد طويل، واستمر تأثير تلك الأعمال المقارنة/المفاضلة حتى عصرنا هذا.
نرشح لك: محمود صالح يكتب: 7 حملات نموذجاً.. لسه عندنا إعلانات حلوة
أزيد فأقول بأنه حتى إذا كان الغرض من النقد – على أي صعيد – هو التذوّق الجمالي المحض، فإن ذلك لا يعني تصنيف الأعمال النقدية إلى قسمين فحسب: جميل وقبيح، أو إطلاق أحكام جمالية فضفاضة؛ فالتذوّق الجمالي يقتضي أن تكون ثمة مستويات من الأجمل والجميل والأدنى جمالاً، ليس فقط رجوعاً إلى الذائقة التي تحكم مجرّدة وإنما كذلك على أضواء معايير جمالية متواضَع عليها وقابلة للمراجعة والاختلاف في الوقت نفسه.
بكل ما سبق في الاعتبار، لم يكن من غضاضة في الإشارة إلى أحمد شوقي في مقال سابق بوصفه أبرع شعراء العربية، ولا يجب أن تكون ثمة غضاضة في الإشارة إلى المتنبي في هذا المقال باعتباره أبرز شعراء العربية على مرّ العصور. وعلى الرغم من أن هذه قسمة تبدو كما لو كانت بمثابة الترضية لمن يرون أن المتنبي هو أبرع الشعراء العرب قاطبةً، فإن الترضية ليست مضمونة النتائج بحال عندما يتعلّق الأمر بالشعبية الكاسحة لأبي الطيب المتنبي، فعشّاقه يرونه الأبرع والأبرز معاً وليس الأبرز فحسب.
من حق أي ناقد أو قارئ متذوّق أن يرى العكس، بل من حقه ابتداءً أن يقدّم غير هذين من الشعراء العرب عليهما، فالأمر كما أشرنا في مقال شوقي متعلّق بالضمير النقدي وبراعة الناقد وسلطته النقدية، إضافة إلى عدد الداعمين للرأي النقدي مثار الجدل.
المتنبي الأبرز بمعنى الأوضح شهرة وتأثيراً ومكانة، وقد ساعده على ذلك الإنجاز حوالي ألف عام عند المقارنة بأحمد شوقي تحديداً؛ لكن تلك القرون العشر لا تملك ذات التأثير عند مقارنة المتنبي بمن سبقه أو جاء بعده بقليل من شعراء العرب الكلاسيكيين الآخرين؛ ما يعني أن البراعة الفنية كانت عاملاً بارزاً وحاسماً في تحديد مكانة المتنبي في مملكة الشعر العربي الغنائي التقليدي.
إلى جوار البراعة الفنية الصرفة، أفضى أكثرُ من عامل إلى القذف بالمتنبي إلى ذروة المشهد الشعري العربي؛ وإذا كانت الحقبة السياسية التي ظهر فيها شاعرنا - باحتدامها وكثرة تقلّباتها - واحداً من أبرز العوامل التي شكّلت أسطورته، فإن ذلك العامل الخطير لم يكن ليغدو بالغ التأثير لولا شخصية المتنبي وطريقتها منقطعة النظير في التعامل مع ذلك الاحتدام السياسي والتنقّل عبر تقلّباته المتوالية، بل والمزايدة بابتداع الشاعر تقلّباته الخاصة التي لا تقلّ حدّة وإثارة عمّا كان يجري في ذلك الزمان الذي بزغ نجمه فيه ولا يزال ساطعاً عبر القرون.
ليست الموهبة والأدوات الفنية وحدها إذن وإنما شخصية المبدع كذلك تبدو عظيمة التأثير في ترسيخ مكانته؛ واللازم في الشخصية على هذا الصعيد هو التميّز الواضح والقدرة على ترك الانطباع القوي لدى الآخرين (الكاريزما) بصرف النظر عن الطباع شدّة وليناً، أو خيراً وشرّاً بصفة عامة استناداً إلى أية مرجعية.
اعتدادٌ بالنفس يبلغ ما يوصف بجنون العظمة، رغبة جامحة في العطايا المادية على اختلافها، هوَس عظيم بالولاية، لامبالاة تجاه الاعتبارات الدينية المقدّسة، عنصرية عربية حادة وعميقة، حسّ هجائي فاحش ولسان مقذع متى ما لزم الأمر وكثيراً ما كان يلزم، قدرة على الانتقال بثبات من التهافت بين يدي الممدوح إلى أرفع درجات الإباء والندّية أمامه. تلك السمات الفريدة وغيرها على ذات الشاكلة هي ما شكّل شخصية المتنبي منقطعة المثال؛ وببضع صُدَف ومفارقات شخصية واجتماعية وسياسية من طراز شديد التميّز عاش شاعرنا حياة أشبه بدراما بالغة الإثارة صَنَع أشدَّ حبكاتها بنفسه واستجاب بعنف وحدة لحبكات أخرى لا تقلّ تعقيداً وَجَدَ نفسه أمامها وهو يؤدّي دور الشاعر العربي الأعمق شهرة والأشدّ تأثيراً والأكثر إثارة للسهر والاختصام بحسب نبوءته الشخصية.