بتاريخ 13 مارس 1928 ضمن العدد 118 من جريدة "روز اليوسف" (التي كان يُكتب حينها تحت عنوانها: جريدة سياسية انتقادية مسرحية مصورة؛ "انتقادية" في الغالب إشارة إلى النقد الفني والاجتماعي بتعبير ذلك الزمان، و"مسرحية" هي على الأرجح - بتعبير ذلك الزمان أيضاً - مرادف "فنية"، حيث لم تكن السينما الناطقة ولا التلفزيون قد ظهرا بعد) ورَد في الصفحتين 21 و 22 مقال بعنوان "الخمر وشهيرات الممثلات".
نرشح لك :عمرو منير دهب يكتب: المتنبّي: أبرز شعراء العربية على مرّ العصور
تحت ذلك العنوان جاء ما يلي: "كانت المرحومة ساره برنار الممثلة الخالدة الذكر عصبية المزاج جداً، سريعة الغضب، إذا أخذتها سورته فقدت وعيها وحطمت ما تراه أمامها ولو على رؤوس الحاضرين! ولهذا السبب كان أطباؤها ينصحونها بعدم تناول الخمر مهما قلّ مقدارها مخافة أن يؤثر مفعولها في أعصابها المضطربة. ولكنها كانت تعمد إلى الخمر أحياناً، تُغرق فيها همومها، تطلب النسيان. من ذلك ما حدث عقب تمثيلها دور هملت الشهير الذي لم تفلح في إخراجه ("أدائه" بلغة ذلك الزمان) ولم تلاق فيه نجاحاً يذكر بالنسبة إلى نجاحها في إخراج أدوارها الأخرى الشهيرة. ولم يستطع أصدقاؤها من النقاد أن يحابوها فيمدحوها أو يخفوا عنها الحقيقة. وقرأت ساره بين سطور مقالاتهم تحفظاً وتلميحات، وأدركت أنها فشلت في تمثيل هذه الدور المشهور الذي يعده النقاد والكتاب مقياساً لكفاءة الممثلة أو الممثل. وساور ساره غضب شديد وهمّ أشد. ولمّا أمسى المساء، كانت سارة قد تناولت من الخمر ما يكفي لإسكار أربعة رجال وطرحهم أرضاً! وأوحى إليها سكرها أن ترتدي قميص نومها فقط، وأن تجلس في شرفة إحدى غرف الطابق الأول من دارها، ولا تعلو الشرفة المذكورة عن الشارع سوى مترين اثنين. واضطجعت ساره على مقعد طويل (شيزلونج) رافعة رجليها، مسندة قدميها على حاجز الشرفة (الدرابزين)".
يواصل المقال بعدها الإثارة بلغة ذلك العصر في عرض عواقب "تهوّر" الممثلة الأشهر في زمانها بتأثير الخمر ونتيجة لسبب مباشر هو فشلها في تجسيد دور (رجُل) يعتبره النقاد بمثابة المعيار الأبرز لتقييم الممثلين كما ورد في المقال.
لي إيزرايل Lee Israel كاتبة سيرة ذاتية أقرّت بـ"التزوير الأدبي" وصدر لها كتاب
Can You Ever Forgive Me?: Memoirs of a Literary Forger، الترجمة العربية بعنوان "هل يمكن أن تسامحني؟ مذكرات مزورة أدبية" عن دار شفق بالكويت سنة 2020. وكما في الغلاف الأخير للترجمة العربية للكتاب، فقد "باعت إيزرايل رسائل زعمت أنها لعمالقة الثقافة من أمثال دوروثي باركر ونويل كوارد، كانت في الحقيقة من تأليفها الخاص، مستغلة معرفتها العميقة بأسلوبهم الأدبي وبرشاقة قلمها في الأساس. انطلت الحيلة على الجمهور قرابة ثلاث سنوات. ولما اكتشف مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمر عام 1992 أوشكت حياتها الأدبية على الانتهاء، ومَثَلَتْ أمام المحكمة، واعترفت بجريمتها".
تحت عنوان "بائسة ومتهورة" تقول إيزرايل: "لم أستطع إدارة شؤوني المالية بحكمة، فأنفقت جلّ مدّخراتي برعونة وطيش، متّبعة في ذلك أهوائي الشخصية الصبيانية. وعلى اعتبار أني بذلت مجهوداً مضنياً على كتابي الأخير، قرّرتُ أن أقضي بضعة أشهر من دون ممارسة أيّ عمل... لقد اضطررت للتخلي عن العمل مع الممثلة جودي هوليدي Judy Holliday، والممثلة بيت ديفيس Bette Davis طلبت مني إعادة صياغة مجموعة من سيرتها الذاتية، وعندما سألني الناس عن المشكلة التي حدثت في النهاية وأودت إلى فشل المشروع قلت لهم: لقد صرختُ في وجهها مرة أخرى! كما تخليت عن المحامي والسياسي روي كوهن Roy Cohn والممثلة فانيسا ريدغريف Vanessa Redgrave، وحتى المخرج السينمائي الشهير وودي آلان Woody Allen".
بعيداً عمّا ورد تحت عنوان "بائسة ومتهورة" تحديداً، يُعدّ "مذكرات مزورة أدبية" برمّته عرضاً لتجربة كاتبة بلغ بها التهوّر حدّ ارتكاب جريمة يحاسب عليها القانون الفيدرالي الأمريكي، وهي من قبلُ جريمة أخلاقية من الصعب أن يسامحها عليها (كما تتوسّل في عنوان الكتاب) عشّاق الكتابة الذين انطلت عليهم الحيلة بضعة أعوام؛ وإن يكن الاعتراف بالجريمة وطلب الغفران على رؤوس الأشهاد وسيلة لا بأس بها إلى قلوب القرّاء الرُّحَماء، فضلاً عن كونها حيلة ذكية بصورة موازية إلى صناعة كتاب رائج يحقّق أرباحاً طائلة كانت الكاتبة تطمح إليها ابتداءً عندما أقدمت على فعلتها الأدبية النكراء.
بصرف البصر عن خصوصية التجربتين الآنفتين لسارة برنار ولي إيزرايل، هل يمكن النظر إلى المرأة بصفة عامة باعتبارها متهوّرة؟ في الواقع، من السهل إلى حدّ ما القول بأن حواء عاطفية أو انفعالية أو حتى مندفعة، ولكن القول بأنها متهوّرة بحيث تسفر عاطفيّتها أو انفعالها أو اندفاعها عن ارتكاب أفعال متهوّرة قول ليس من السهل إطلاقه.
على صعيد التهوّر البحت يبدو آدم الأحق بأن ينال قصب السبق، فهو عندما يستبد به الغضب يجنح إلى ارتكاب حماقاته دون تبصّر في العواقب، خاصة عندما تُستفَزّ "رجولتُه"؛ هذا بينما تبقى حواء على الأرجح عند احتدام المواقف يقظة، تصعد بانفعالاتها حسب ما يقتضي السياق دون أن تغالي فيها إلى حدود ارتكاب أفعال متهوّرة إلّا نادراً عندما تخرج الأمور تماماً عن سيطرتها بحكم تكوينها الفسيولوجي وليس بداعي استفزاز "أنوثتها" بالضرورة كما هو الحال مع "رجولة" آدم المُستفَزَّة لأهون الأسباب.
الأهم أن حواء تعرف كيف تتراجع عن فعل متهوّر ترتكبه في لحظة حماقة أنثوية خارجة عن السيطرة، أو على الأقل تقلّل من عواقب تهوّرها الوخيمة إلى أدنى الحدود الممكنة؛ في حين يبدو آدم في المقابل فخوراً بقدرته على أن يذهب بحماقات رجولته المتهوّرة أبعد من أيّ مدى متخيّل، ما يجعل تهوّره والحال كتلك – على صعيد المطارحة الأزلية بين الجنسين - أداةً بيد حواء أكثر من كونه سلاحاً يشهره في وجوه الأخرين فيحقق له من المكاسب "الرجولية" ما يصبو إليه.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])