ربما باستثناء المعنيين بتاريخ الدول والممالك العربية والإسلامية، تبدو الدولة الإخشيدية عالقة في الأذهان بأبي المسك كافور الإخشيدي أكثر مما هي مرتبطة بمؤسسها محمد بن طُغج وابنيه اللذين حكما من بعده صوريّاً، فقد كانت السلطة الفعلية خلال حكم الابنين في يد كافور الذي انفرد لاحقاً بالحكم بشكل رسمي لتشهد الدولة الإخشيدية أزهى مراحلها، ولتكون بذلك فترة سيطرة كافور الرسمية وشبه الرسمية على مقاليد الحكم ثُلثَيْ عمر الدولة الإخشيدية.
باطّراح مشكلة المتنبي "الشخصية" جداً وبالغة الخصوصية والفحش في الخصومة من جانبه، يبدو كافور الإخشيدي في نظر المؤرخين رمزاً جديراً بالتقدير والإعجاب وليس بحال ذلك الذي خلد في أذهان عامة العرب ونُخبهم من خلال أشهر الهجائيات المقذعة لأبرز شعرائهم قاطبةً. وإذا كانت المعالم الظاهرة لسيرة كافور تشير بوضوح إلى عظمة إنجازه، تماماً كما يؤكد بعضُ ما عُرف من تفاصيل تلك السيرة جوهرَه الثمين، فإنني لا أرى شاهداً على رفعة مقام الرجل أفضل من أبيات المتنبي نفسه، ولا أعني هنا مدائحه لـ"الملك الأستاذ" أوّلَ الأمر طمعاً في العطايا والولاية بل أقصد تحديداً هجائياته الفاحشة ذاتها التي سارت بين الناس فغطّت على فحش جرير والفرزدق والأخطل في مطارحاتهم الهجائية الشهيرة التي سبقت المتنبي بأكثر من قرنين من الزمان.
تضمّن هجاء المتنبي لكافور سباباً فاحشاً ينطوي على لمزات عنصرية لا تقدح في كفاءة أو أخلاق الرجل سواء من حيث جدارته بالحكم وبراعته فيه أو بالنظر إلى طباعه وسلوكه مجرّدين. كان من شأن المتنبي أن يبدو موضوعيّاً لو أنه تحاشى الفحش في المسبة والخصومة وأبان ما لا يعجبه من طباع كافور وأفعاله، لكنه تعمّد ألّا يكون موضوعياً لسببين على الأرجح: الأول أنه يعرف أن سلاح الشاعر العربي الفتاك في الانتقام من الخصوم هو اللجوء إلى أقصى درجات التشهير بغرض إشانة السمعة لا الموضوعية في تحرّي العيوب والاعتدال في الإفصاح عنها، والثاني أنه لا يوجد في طباع كافور وأفعاله ما يعيبه فوق المعتاد من النقص الإنساني ممّا لا يسلم منه أبيض أو أسود من البشر؛ أمّا تقييمه بوصفه حاكماً فمن شأنه كما سنرى بعد قليل أن يكون برهاناً لصالحه لا حجّة عليه.
ماذا إذن عن الإحساس بالخذلان الشديد الذي اعترى المتنبي نتيجة حرمانه من حلمه الأثير بأن تُناط به ضيعة أو ولاية؟ الإجابة المبرّئة لكافور يمثّلها سؤال استنكاري بسيط: هل وعد كافور المتنبي ابتداءً بجعله حاكماً على ولاية في الصعيد أو غيره؟ ليست ثمة – حتى في شعر المتنبي نفسه – ما يشير إلى أن كافور قد قطع وعداً من ذلك القبيل، كل ما هنالك استجداءات مفرطة في التذلّل من أبرز شعراء العربية وأشهرهم اعتداداً بالنفس:
أَبا المِسكِ هَل في الكَأسِ فَضلٌ أَنالُهُ * فَإِنّي أُغَنّي مُنذُ حينٍ وَتَشرَبُ
وتملّق ذهب بشاعرنا العظيم إلى تقديم ممدوحه على أهله في الحلاوة والعذوبة:
أَحِنُّ إِلى أَهلي وَأَهوى لِقاءَهُم * وَأَينَ مِنَ المُشتاقِ عَنقاءُ مُغرِبُ
فَإِن لَم يَكُن إِلّا أَبو المِسكِ أَو هُمُ * فَإِنَّكَ أَحلى في فُؤادي وَأَعذَبُ
بل زايدَ الشاعر "العروبي" الكبير إلى حيث جعل القبائل العربية الرفيعة أدنى منزلة من أن تستحق مثل كافور:
وَيُغنيكَ عَمّا يَنسُبُ الناسُ أَنَّهُ * إِلَيكَ تَناهى المَكرُماتُ وَتُنسَبُ
وَأَيُّ قَبيلٍ يَستَحِقُّكَ قَدرُهُ * مَعَدُّ بنُ عَدنانَ فِداكَ وَيَعرُبُ
وإذ نكتفي في هذا المقام ببضعة أبيات من قصيدة واحدة، فإن ما سبق وما في سياقه من ديوان المتنبي وسيرته لا يحطّ بحال من القيمة الفنية ولا المكانة الأدبية التاريخية لأشهر شعراء العربية قاطبة، ولا هو – في مقامنا هذا على الأقل – بداعي محاكمة أخلاقية للشاعر الكبير قدرَ ما هو بغرض الإشارة إلى أن رجلاً حسن السيرة، بل حاكماً عصاميّاً فريد الإنجاز، قد شُوّهت سيرته فقط لأن شاعراً – لا جدال في مكانته الأدبية – لم ينل منه ما كانت نفسه تمنّيه به.
ما الذي تمنّاه المتنبي؟ العطايا؟ الأرجح أنه نال منها الكثير على يد كافور مثلما نال الكثيرمنها من قبل على يد سيف الدولة؛ ولكن الشاعر المتطلّع أبداً إلى التفرّد كان ينظر أيضاً إلى المكانة والحظوة منقطعتي النظير لدى ممدوحيه الحكام، وقد حظي المتنبي بمكانة استثنائية عند سيف الدولة ثم عادت الأحوال فانقلبت وأفضت إلى الهجران حين ضاق الأمير الحمداني بتطلّب شاعره المتجاوز كلَّ الحدود المعروفة في أدب مخاطبة ومخالطة الأمراء.
مع كافور تجاوزت أحلام شاعرنا نُسَخَها التي كانت أيام سيف الدولة فلم تعد العطايا على وجه العموم ما يشغله بل باتت الولاية تحديداً هي مجال خياله ومدار سؤاله، وذلك على اعتبار أن الحظوة شديدة الخصوصية لدى الحاكم الممدوح مسألة مفروغاً منها بالنسبة للمتنبي. قلنا إن كافور لم يَعِد شاعرَنا بأن ينوط به ضيعة أو ولاية، فكافور بذلك لم يخلف وعداً؛ لكن هل كان المتنبي ابتداءً جديراً بمنصب من ذلك القبيل؟ المسألة ليست متعلقة بأموال تُمنَح فيعدّها حاسدون في مجلس الأمير فوق ما يستحقه الشاعر المحظي وإنما هي ولاية ليس في خبرات الشاعر بحسب سيرته الذاتية ما يفيد بأنه مؤهّل لها وفق ما يقتضيه الوصف الوظيفي للمنصب الكبير. امتناع كافور إذن عن تحقيق حلم المتنبي كان أمراً عقلانياً حكيماً، حتى إذا كان بعض الروايات يرجّح أن سبباً آخر هو ما دفع كافور إلى الامتناع متمثلاً في توجسه من رجل ادّعى النبوّة حين لم يكن يملك شيئاً فليس بمستبعد عليه أن يستأثر بالملك حين تؤول إليه ولاية، وهو سبب لا يخلو من الحكمة إذا صحّ، وإنْ بدا لي أقرب إلى أن يكون قولاً موضوعاً على لسان كافور راج لأنه يؤجج الإثارة في قصة المتنبي الغنية بالحبكات الدرامية الفريدة.
قيل كذلك إن كافور خشي أن تشغل الولاية المتنبي عن وظيفته الرئيسة وهي مدح الحاكم، وهذا أيضاً إذا صحّ سبب وجيه ينمّ عن فطنة وحكمة وقرار في محلّه؛ وقد تباطأ سيف الدولة من قبل عن إكرام المتنبي - بل أبعده عن حظوته شديدة الخصوصية - لأن الشاعر الكبير لم يقم بمقتضيات وظيفته كاملة، إذ لم يكن المتنبي يمدح أمير حلب سوى بضع مرات معدودات في السنة، وكان يتيه على الآخرين من العلماء والشعراء في مجلسه ليس فقط بموهبته الطاغية وإنما كذلك بما استأثر به من الحظوة، وأبرز ما استأثر به إنشاد الأمير جالساً، ما أفضى آخر المطاف إلى الغضب والعتاب ثم الفراق الشهير:
فِراقٌ وَمَن فارَقتُ غَيرُ مُذَمَّمِ * وَأَمٌّ وَمَن يَمَّمتُ خَيرُ مُيَمَّمِ
ولو أن المتنبي وقف في الموازنة بين الحاكمين - الحمداني والإخشيدي – عند هذه القصيدة لكان عادلاً، لكن ما اشتهر من قصائد شاعرنا العظيم وأبياته لم تكن مدائحه لكافور بل أقذع هجائياته التي جاء بها لاحقاً، ذلك مقابل مدائح خالدة سابقة في حق سيف الدولة إلى جانب ميمية وداعه الشهيرة التي يعاتبه فيها ولا يذمّه بحال، بل يضمّنها من الحبّ ما يُظنّ أنه من حبيب مُدلّه إلى محبوبته:
واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ * وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
مالي أُكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي * وَتَدَّعي حُبَّ سَيفِ الدَولَةِ الأُمَمُ
إِن كانَ يَجمَعُنا حُبٌّ لِغُرَّتِهِ * فَلَيتَ أَنّا بِقَدرِ الحُبِّ نَقتَسِمُ
ربما كان لإعجاب المتنبي إلى حدود الافتتان بسيف الدولة ما يبرِّره، وربما كان لسخطه على كافور ما يبرِّره أيضاً، وذلك رجوعاً إلى نفسية الشاعر "المجنون" بعظمته والمعتد بعروبته والمجاهر في شجاعة بنزعته المادية إلى استجداء العطايا على حساب كل شيء تقريباً خلا كبريائه (أحياناً).
بعيداً عن ديوان المتنبي، يميل ميزان المقارنة بين سيف الدولة وكافور بوضوح لصالح الأخير، فالحاكم الإخشيدي كان أوسع سلطاناً من الأمير الحمداني بحساب الرقعة الجغرافية الخاضعة لسيطرة كلّ منهما، أمّا حساب المواجهات الشخصية المباشرة على أرض المعركة بين الرجلين فيشهد بانتصارين بارزين لكافور على سيف الدولة. غير أن قيمة كافور الأرفع تكمن في عصاميّته بالغة الفرادة التي تجلّت في رحلة صعود غير مسبوقة في التاريخ العربي والإسلامي من رجل رقيق إلى حاكم ذي صولات وجولات ومجالس تضج بالعلماء والشعراء وسيرة ليس فيها ما يشينها حتى بالنظر إلى مضمون هجائيات المتنبي التي لا تتجاوز من الناحية الموضوعية كونها شتائم فاحشة بدوافع شخصية محضة صيغت في أساليب لغوية رفيعة وقوالب بلاغية رائعة الجمال.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: المتنبّي: أبرز شعراء العربية على مرّ العصور