ما الفرق بين انتقام آدم وانتقام حواء؟ أوّل ما يرِد إلى الخاطر في بيان الفرق بين الانتقامين أن انتقام الرجل يتّسم بالعنف في حين يبدو التشفّي بمثابة الدافع والغاية للانتقام الأنثوي؛ فهل تُسوّغ تلك الانطباعات المفترضة عن الفرق بين الانتقامين القولَ بأن المرأة أشدّ نزوعاً إلى الانتقام من الرجل؟
ليس من السهل بحال الجزم بأن أحد الجنسين أشدّ نزوعاً إلى الانتقام من الآخر، وإن يكن من الطبيعي أن تختلف دوافع الانتقام وغاياته – وأشكاله من ثم – بين الجنسين.
نرشح لك:عمرو منير دهب يكتب: انتصاراً لكافور على سيف الدولة
يقول دان آريلي Dan Ariely في كتابه The Upside of Irrationality: The Unexpected Benefits of Defying Logic، الصادر في ترجمته العربية بعنوان "الجانب الإيجابي من اللاعقلانية: الوجه الآخر للاعقلانية" عن مكتبة جرير بالرياض سنة2015، يقول: "ولكن الأكثر من ذلك هو أن مشاعر الانتقام هي إشباع للرغبة الشخصية أكثر من كونها انتقاماً من الشخص الآخر". من الحكمة التمهّل في استيعاب مغزى هذه الخلاصة، خاصة أنها ترِد عقب استعراض تجربة على الشمبانزي تبحث في دوافع الانتقام لدى الحيوانات، وقبل حديثٍ عن الثقة من "وجهة النظر الاقتصادية المنطقية".
موضوع كتاب دان آريلي متميّز من حيث تطرّقه إلى "الفوائد غير المتوقعة لتحدي المنطق"، ولكن ما يرِد في الفصل الخامس من الكتاب بعنوان "حالة الانتقام: ما الذي يدفعنا للبحث عن العدل؟" هو ما يعنينا تحديداً في سياقنا هذا؛ الكلمات التالية تستحق التأمّل: "إذا ما سنحت الفرصة لمعظمنا، فإننا نجد سعادة بالغة في الانتقام رغم أن قليلاً منا يبالغ فيه... إن الانتقام هو إحدى الغرائز الدفينة بداخلنا. وعلى مدار التاريخ سالت محيطات من الدماء، وقتل ما لا يحصى من البشر في محاولة لتصفية حسابات حتى لو لم يكن هناك من نفع محتمل". وقبل أن يشرع في الحديث عن "السعادة بالانتقام"، يتساءل آريلي: "ما – بالضبط – التقنيات والدوافع الكامنة وراء هذه الرغبة البدائية؟ ما الحالات التي يرغب الناس فيها في الانتقام؟ ما الدافع لنا في قضاء أوقاتنا وإنفاق أموالنا وجهدنا وحتى المخاطرة فقط لجعل شخص آخر يعاني؟". يجيب المؤلف على تلك الأسئلة بأسلوب غير مباشر في الغالب من خلال قصص/تجارب شخصية مرّ بها وعبر عناوين فرعية من قبيل: "انتقام العميل"، "قوة الاعتذارات"، "الانتقام المفيد".
مهما يكن ممّا قيل حول نبذه على الصعيد الأخلاقي المحض، فإن الانتقام يبدو كغريزة لا مفرّ من الخضوع لتأثيرها بشكل أو آخر كلما اقتضى السياق، وما أشدّ تكرار السياقات التي تستوجب الانتقام بدرجة أو أخرى في مختلف أوجه حياتنا. تكاد تلك تكون "الحقيقة" الوحيدة الثابتة بخصوص الانتقام بصفة عامة، إذ من الصعب الاتفاق على حقائق/قواعد أخرى حول استجاباتنا تجاه الانتقام؛ فبالإضافة إلى خصوصية كل موقف على حدة، تبدو طبيعة كلٍّ منّا الشخصية كما لو كانت العامل الأبرز في تحديد ردة الفعل إزاء أيٍّ من المواقف التي تشعلها "غريزة" الانتقام، وذلك بما يتجاوز تأثير هويّة الفرد رجوعاً إلى أيٍّ من الجنسين اللدودين والمتناقضين بصفة عامة في الطباع والاستجابات، وإن يكن ذلك لا يمنع على كل حال إمكانية إجمال سمات عامة لدوافع وطرائق استجابات كلا الجنسين معاً للانتقام.
تحت عنوان "حواء والتفاصيل" ذهبنا إلى أن التفاصيل تبدو "كما لو كانت سلاحاً تستخدمه حوّاء لمراقبة صنوها اللدود آدم وتعقّب صولاته وجولاته على كل نطاق"، وقلنا بأن التفاصيل تبدو كامتياز فطري لحواء "تحتفظ به في صمت لمراقبة لفتات وسكنات آدم ومحاسبته من ثم من حيث يحتسب ولا يحتسب". والحال كتلك، لا مانع من أن يكون ذلك الامتياز الفطري في العناية بالتفاصيل هو الذي يجعل حواء أشدّ انتباهاً لدواعي الانتقام مما قلّ شأنه أو عظم تجاه تجلّيات سلوك آدم المريب؛ أمّا على صعيد المواجهات الأنثوية (الخالصة أو شبه الخالصة) فمن المنطقي أن تتضاعف دواعي الانتقام باعتبار أن كلا الطرفين "محترف" انتباه للتفاصيل وصاحب نفَس طويل في التعامل مع مقتضياتها، وعندما يكون الانتقام هو موضوع المواجهة الرئيس فإن أنفاس حواء لا تكون طويلة فحسب وإنما حادّة أيضاً.
إلى جانب الانتباه إلى التفاصيل، ثمة سمة أخرى أشدّ التصاقاً بالانتقام لدى حوّاء - سنعرضها في مقام مستقل إن شاء الله – هي القدرة اللافتة على التذكّر، أو – للدقة – القدرة الهائلة على "عدم النسيان"؛ هذا وتبدو هذه القدرة مرتبطة بدورها بملكة الانتباه الشديد للتفاصيل.
إذا كان "عدم النسيان" في أعقاب التعرّض لاستفزاز من أي قبيل مبعثاً للأرق، فإنه لا علاج لذلك الأرق أفضل من الانتقام، بحيث يصبح الموقف الذي لا يُنسى هو الانتقام/الثأر الذي "يشفي الغليل" وليس الإهانة/الإساءة ولو كانت بسيطة أو حتى متخيّلة.
والحال كتلك، يبدو لدى حواء – المشحونة بالصفات/الملكات الحامية – أكثر من دافع لا لكي تغدو أكثر انتقاماً من الرجل وإنما بما يجعل بواعث انتقامها وأشكاله أشدّ تميّزاً من آدم الذي يكتفي في مقام التفوّق على خصمه الوجودي الأزلي بصفات وملكات محدودة للغاية، صفات وملكات على شاكلة عنفه الأهوج الذي لا يعرف كيف يخرج من عواقبه بفطنة وسلام.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])