تحت عنوان "التوقيع الاستفزازي"، ضمن كتابه "من أوراقي المجهولة" الصادر عن منشورات نزار قباني ببيروت سنة 2000، يحكي الشاعر الشهير: "الحادثة التي جرت لي في طرابلس عروسة الشمال اللبناني عام 1973 لا تشبه الحوادث، فهي أشبه بصاعقة ضربتني، وحوّلت أعصابي إلى أسلاك من الرماد، ودمي إلى سائل بنفسجي. حادثة أفقدتني توازني خلال لحظات وأدخلتني في امتحان صعب لا أعرف كيف أجيب على أسئلته، كأنّ ذاكرتي توقفت نهائياً عن العمل. فبعد الأمسية الشعرية الحاشدة التي قدّمتها بدعوة من نادي الجامعيين في الشمال، في حديقة الرابطة الثقافية في طرابلس، التف الجمهور الطرابلسي حولي طالباً التوقيع على مجموعاتي الشعرية أو على دفاتر الأوتوغراف التي يحملونها، وقد بدا كل شيء هادئاً وطبيعياً في هذه المدينة التي عُرفت بتراثها الثقافي المحافظ وعاداتها الشامية الأصيلة".
يواصل نزار قباني: "ثم جاء الزلزال على صورة سيدة مديدة القامة، سوداء العينين، بدوية الملامح، تقدمت من خلال الحشد الكبير إلى حيث كنت أجلس، وسألتني بصوت عميق وواثق من نفسه: هل تسمح بأن توقّع لي؟ قلت: تِكْرمي... هاتي أوتوغرافك، قالت: ليس عندي أوتوغراف! قلت: هاتي ورقة كلينكس، قالت: لا أستعمل مناديل الكلينكس، قلت: هاتي تذكرة هويتك، قالت: ليس عندي تذكرة هوية، قلت: هاتي ورقة من أوراق العملة اللبنانية، قالت: ليس عندي فلوس، قلت: إذن أين تريدينني أن أوقّع؟ قالت: على فخذي... إذا سمحت! ورفعت تنورتها على الأعلى أمام جمع غفير من الناس دون أن يرف لها جفن أو يرتجف لها عَصَب. تمالكت نفسي وبلعت ريقي من هول المفاجأة التي أذهلتني كما أذهلت الناس الذين كانوا يملؤون الحديقة. كان لا بدّ من اتخاذ قرار سريع لمواجهة هذا التحدّي الكبير وهذا الامتحان الذي أدخلتني فيه هذه السيدة الشجاعة والمجنونة، فإمّا أن أوقِّع وأكسب المعركة، وإمّا أن أرفض فأخون تاريخي كشاعر أعطى المرأة أجمل شعره على مدى خمسين عاماً. وقفت ذاهلاً أمام الأفق الحريري المفتوح أمامي، وبدأت أحفر توقيعي على البرونز المشتعل كنحّات محترف يشتغل بإتقان على تمثال جميل، والناس من حولي ذاهلون أمام الحوار الذي يدور بين الشعر وبين البرونز. انتهت حفلة التوقيع الخرافية، وغابت "ساندريلا الطرابلسية" بين أشجار الحديقة دون أن أعرف من هي وما هو اسمها وما هي مؤهلاتها الثقافية؛ كل ما أتذكر أنها سيدة جميلة، بدوية الملامح، وخارجة على القانون".
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: انتقام آدم وانتقام حواء..الفصل الثامن عشر من كتاب "جينات أنثويّة"
تلك قصة بطلتها سيدة في مجتمع محافظ – وإنْ بدت الأوساط الثقافية والاجتماعية العربية متحررة بوضوح في ذلك الزمان - قرّرت بثقة أن ترتكب مخالفة في حق التقاليد والأعراف وأقدمت على تنفيذها بذات الثقة. كثيراً ما يقع مثل ذلك من تجليات جرأة حواء، بل ما هو أعظم منه، ولكن ليس عياناً جهاراً في كل الأحوال؛ غير أن ما يعنينا في سياقنا هذا هو النظر في مخالفات حواء الأقل إثارة وإن تكن أشدّ مخاتلة إزاء الامتثال للتقاليد والأعراف، وبعض تلك "المخالفات" لا يقصد الاصطدام بالأعراف والتقاليد وإنما بآدم تحديداً؛ تلك المخالفات التي "ترتكبها" حواء كل يوم تقريباً، وأوشك أن أقول بأن معظم أقوال حواء وأفعالها ينظر إليه الرجل بوصفه "مخالفة" لكونه لا يكون مباشراً على نحو ما يفهمه هو من القول أو الفعل موضع الحكم، ربما حتى قياساً إلى ما تفصح عنه حواء نفسها في معرض حديثها أو سياق فعلها.
هل للمسألة علاقة بـ"سوء التفاهم" الشهير بين الجنسين بسبب اختلاف بواعث السلوك لدى كلٍّ منهما رجوعاً إلى اختلافهما في التركيبين الجسماني والنفسي؟ ذلك ممكن، بل مؤكّد، ولكن ليس في كل الأحوال؛ فحواء تعمد إلى ارتكاب "مخالفاتها" لأنها ترى أن الطريق المستقيم مع الرجل لا يفضي في الغالب إلى تحقيق/انتزاع ما تريده، وعليه فإن الوسيلة (الملتوية في نظر آدم) تبرّرها الغاية التي لن يعترض عليها الرجل في الغالب، هذا إذا لم يسعد بها آخر المطاف.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: انتصاراً لكافور على سيف الدولة
عندما يتعلّق الأمر بالمواجهة الصريحة مع الذات تبدو حواء أشدّ صدقاً مع نفسها من آدم، فالرجل "المسكين" يقع بسهولة ضحيةً لتضخيم الذات الذي يبثّه فيه المجتمع، فيظن نفسه بطلاً خارقاً في وسعه تنفيذ كل ما تنادي به المثل العليا التي ينصّبها مجتمعه؛ في حين تبدو حواء – المطالَبة عادة في كل المجتمعات تقريباً بأكثر مما يُطالَب به الرجل على صعيد القيم العليا – أعمق دراية بقدراتها، وبصفة عامة أعمق وعياً بذاتها. الأهم من ذلك، بل بسبب ذلك على الأرجح، ترتكب حواء "مخالفاتها" بثقة وبأقلّ قدر من تأنيب الضمير.
وبرغم أن المخالفات المقصودة في سياقنا هذا هي في الغالب عابرة وإن تكن متكررة، من قبيل أن تتخذ حواءُ آدمَها "الساذج" وسيلة إلى غاية أخرى تريدها منه على غير ما يفهم هو، فإن المرأة تمتلك من شجاعة الصراحة في مواجهة الذات ما يلزم لإقدامها على ارتكاب مخالفاتها عظيمة الأثر – متى ما استدعى السياق – على اختلاف المقامات بثبات وثقة جديرين بالإعجاب.
الأرجح أن ثقة حواء في قدرتها على ارتكاب مخالفاتها تزداد عندما تستيقن من أن آدم أصبح مدركاً طبيعتَها تلك دون أن يبدي انزعاجاً أو اعتراضاً بغرض "التصحيح" وإنما وهو يواصل إذعانه في شيء من التبرّم المكتوم عادة، ذلك التبرّم الذي ينقلب إلى مباركة ضمنية عندما يرى الغايات البديعة التي تفضي إليها الوسائلُ "الملتوية" في كثير من (معظم؟) الأحيان؛ فعلى سبيل المثال، لو مضت شؤون التنشئة وفق الرؤى "المنطقية" و"الواقعية" للرجال "المتعقّلين" لَما أدرك الأبناءُ من الإنجازات الخارقة ما كانت طموحاتُ النساء وأحلامُهن الجامحة سبباً مباشراً له؛ وحدّث ولا حرج عن الوسائل التي تتخذها النساء لإقناع (إجبار؟) الرجال بكل خطوة على طريق تحقيق أحلام الأبناء "المستحيلة".
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])