رأيْنا من قبل أن الريبة تجاه دوافع آدم ليست ردّة فعل حصرية من المرأة على الرجل، فحوّاء أيضاً ترتاب من دوافع بنات جنسها على اختلاف المقامات، بل ربما كانت حواء أشدّ ارتياباً تجاه بنات جنسها مقارنة بارتيابها من الرجل كونها أكثر حساسية ودراية بما يمكن أن يعتمل في قلب المرأة من المشاعر ويتصارع في عقلها من الأفكار دون أن تنبس ببنت شفة أو يظهر على وجهها أيٌّ من التعابير الدالّة من قريب أو بعيد على أيٍّ من النوايا في أيّ مقام.
ولأن حواء هي الأكثر تأجّجاً بالمشاعر والانفعالات بما يجعلها تبدو كما لو كانت الأشدّ امتلاءً بالبواعث "الدرامية" والأعلى استعداداً من ثمّ للاستجابة لتلك البواعث، فإن الارتياب المشار إليه هنا لا يعني في الأساس ما يدور حول أحداث/حوادث جسيمة قدْرَ ما يُقصد به ابتداءً كل شاردة وواردة من لفتات وسكنات حواء المحتشدة انفعالاً وحياةً؛ فهو بتلك المبالغة ارتياب يدفع بحواء إلى حيث تغدو متعاطَفاً معها أكثر مما يفضي إلى إدانتها على اختلاف مقامات الإدانة.
تحت العنوان الفرعي "لماذا تبالغ النساء؟" في الفصل السابع من كتابهما Why Men Lie and Women Cry، الصادر في ترجمته العربية بعنوان "لماذا يكذب الرجال وتبكي النساء" عن دار عصير الكتب بالقاهرة سنة 2021، يقول آلان وباربرا بيز Allan and Barbara Pease: "يبالغ كل من الرجال والنساء، الفرق هو أن الرجال يبالغون في الحقائق والبيانات، بينما تبالغ النساء في العواطف والمشاعر. ربما يبالغ الرجل في أهمية وظيفته، أو في مقدار دخله، أو في حجم السمكة التي اصطادها، أو في أداء سيارته، أو في عدد النساء الجميلات اللائي واعدهن. بينما تبالغ النساء في مشاعرهن ومشاعر الآخرين إزاء المسائل الشخصية، فمخ المرأة يركز على الأشخاص ويرسم خيالاته عن الحياة والعلاقات أكثر مما يفعل مخ الرجل، ومبالغتها في تلك الأمور تجعل المحادثات أكثر تشويقاً. تضفي المبالغة تشويقاً وإثارة ومتعة على المحادثات التي تخص العلاقات".
يكمل المؤلفان: "إن مبالغة النساء في الكلمات والعواطف أمر شائع ومقبول بكليته للنساء جميعاً عندما يتحدثن فيما بينهن، وجزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي لكونها امرأة. تهوى غالبية النساء الانغماس في أحلام يقظة عن فارس وسيم يركض على حصان أبيض لحملهن بعيداً، وإن كن في الغالب ينتهين إلى الوقوع في غرام فني كمبيوتر ذي شعر أحمر ووجه منمش وبيده زجاجة جعة يلتقين به في مطعم الحصان الأبيض مساء يوم السبت".
عندما يتعلّق الأمر بالحب الحقيقي/الواقعي/الصادق فالأرجح أن فني الكمبيوتر ذا الشعر الأحمر والوجه المنمش هو الجدير بلقب فارس الأحلام وليس ذلك الذي يمتطي حصاناً أبيض دون معرفة الصنعة التي يمتهنها لكسب قوت يومه. ولكن على كل حال، لا تبدو أحلام الفارس الوسيم على الحصان الأبيض من مبالغات النساء الكارثية قدْرَ ما هي من جملة أحلام المراهقة المعتادة لدى الفتيات؛ ولا غضاضة في ذلك، فالتحدّي مع مبالغات النساء يأتي لاحقاً مع "رجل الواقع" لا فتى الأحلام الذي كان محض خيال. وجدير بالانتباه ما ذكره المؤلفان حول المبالغة التي هي قدَر الجنسين وليست حكراً على النساء فقط، فما الفرق إلّا في الناحية التي تستولي على المبالغة لدى كلٍّ منهما: الحقائق والبيانات بالنسبة للرجال والمشاعر بالنسبة للنساء.
كما في الكتاب، يبلغ الحال بالمرأة حدّ أن تضلّل نفسها، فـ"عندما تعيد المرأة سيناريو ما في رأسها، قد يبدو ما تذكرته حقيقياً". هل يمكن إذن اعتبار فطرة النساء على المبالغة في المشاعر إلى ذلك المدى مسوِّغاً لتبرئة حواء في معظم حالات ارتيابها تجاه آدم وما ينتج عن ذلك الارتياب مما يراه الرجل محض حماقة في السلوك والتصرفات؟ ذلك جائز، ولكن التحدّي الأكبر الذي تواجهه المرأة هو عندما يصبح الارتياب بمثابة الوضع الطبيعي في الاستجابة لحركات وسكنات الرجل بحيث يتبدّى كما لو كان حالة متواصلة من الضربات الاستباقية بغرض الدفاع عن النفس من أخطار محتملة هي في نظر الرجل محض أوهام متكررة.
هكذا تكتمل الحلقة المفرعة: شكوك أنثوية استباقية وردّات فعل ذكورية تسفِّه تلك الشكوك وترى كل خطوة من قِبَل حواء جديرة برؤيتها في المقابل بوصفها مستندة إلى دوافع غير بريئة تهدف إلى غاية مادية بعينها أو إلى استحواذ عاطفي من أي قبيل.
أجمل ما في حوّاء أنها تقف راسخة إزاء تلك الاتهامات، فهي لا تنشغل كثيراً بتبرئة نفسها من تهمة الشك المتواصل تجاه لفتات وسكنات آدم، ذلك أنها لا ترى أن تلك الشكوك مما يستحق أن يُسمّى تهمة حتى إذا صادف أنْ خرج المشكوك فيه بريئاً في كثير من الحالات.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])