في حوار مع صحيفة "البيان" الإماراتية في العام 2001، سُئل الفنان الكبير صلاح السعدني عن السبب وراء كون معظم أعماله تمتاز بالحس السياسي، فأجاب بأنه "تمنّى منذ صغره أن يكون زعيماً سياسياً، لكن بعد فترة تواضعت أحلامه وأصبحت تنحصر في العمل في السياسة، ثم تواضعت أكثر بعدما عمل في الصحافة إلى جانب صديقه مرسي عطا الله. لكن بقي حلم الزعامة الوطنية يراوده بين الحين والآخر، بالإضافة إلى حلم ممارسة السياسة، لذا كان من الطبيعي أن تجذبه الأعمال التي تمتاز بالحس السياسي".
وأشار في الحوار ذاته إلى قصة عمله في الصحافة، مؤكدًا أنه "لو استمر في العمل الصحفي لأصبح الآن رئيس تحرير أو رئيس مجلس إدارة مثل مرسي عطا الله".. لكن القَدَر ساقه لممارسة السياسة الفنية، التي وصفها بأنها أكثر أهمية "لأنه إذا كانت السياسة بألف وجه فهناك في الفن مليون وجه، بل ورسالته مؤثرة ومدوية في كافة أنحاء العالم، فالسياسة قديمًا كانت تصنع في دهاليز القصور، لكنها الآن في كل شيء؛ في رغيف الخبز، وفي أزمة المواصلات، وفي سرير المستشفى، وفي السيولة النقدية، وفي الأزمة الاقتصادية... إلخ".
نرشح لك: صلاح السعدني.. الفنان الذي أجرى حواراً صحفيًا في "صالون حلاقة"
رحلة صلاح السعدني التي بدأت بأحلام الزعامة وممارسة السياسة، وانتهت بوجوده أمام كاميرات السينما والتلفزيون وعلى خشبات المسرح، مرّت بعلاقة وطيدة مع بلاط صاحبة الجلالة، عايش الجزء الأكبر منها مع شقيقه الساخر الأكبر و"الولد الشقي" محمود السعدني.
نرشح لك: كيف كانت علاقة صلاح السعدني بـ "الأب" محمود السعدني؟
هذه العلاقة الممتدة والوطيدة بين عائلة السعدني والصحافة لم تكن لتمر مرور الكرام مع رحيل "عمدة الدراما المصرية"، فبالرغم من كونها عائلة فنية صحفية بامتياز، إلا أن ما واجهوه خلال تشييع جنازة صلاح السعدني أفسد الأجواء برمتها، فقد تزاحم المصورون بين الحضور بطريقة انتهكت حرمة الموت وأغضبت نجله "أحمد"؛ فانهال على بعضهم بالسباب والشتائم.
نرشح لك: في جنازة "العمدة".. أحمد السعدني ينفعل على المصورين ومحمد إمام يطالبهم بالتوقف
وما إن انتهت الجنازة حتى أصدرت نقابة المهن التمثيلية بيانًا تنقل فيه رغبة أسرة الفنان الراحل بعدم حضور الصحفيين للعزاء، واقتصاره على العائلة والزملاء فقط، ليتجدد الحديث عن الأزمة المتكررة مؤخراً حول انتهاك الخصوصيات في جنازات المشاهير.
نرشح لك: نقابة المهن التمثيلية تعتذر للصحفيين: عزاء صلاح السعدني يقتصر على عائلته وزملائه
هل التغطية واجبة؟
اهتمام وسائل الإعلام بتغطية جنازات المشاهير أمر مهم وواجب، بل يعد من باب التقدير للشخصية المتوفاة، ويرصد حجم محبة الجماهير لهذا المشهور، فهناك جنازات مثل جمال عبد الناصر وكوكب الشرق أم كلثوم وعبد الحليم حافظ لا تزال دليلاً على حجم التأثير الذي تركوه في قلوب الجماهير المصرية والعربية، وكيف كنّا سنصدق ما يُحكى عنها لو لم نر الصور التي سجلتها وسائل الإعلام آنذاك، رغم أننا ولدنا بعدها بسنين طويلة!
ولا يقتصر الأمر على الجنازات ذات الأعداد المهيبة، بل أيضاً هناك مثال لتغطية قناة art لجنازة الفنان علاء ولي الدين، والتي خرجت بشكل تقرير تلفزيوني مؤثر، كشف مدى صدمة الوسط في ذلك الحين، بل وقتها سجّل عدد من الفنانين مع كاميرا القناة، وتحدثوا عن علاقتهم بالفنان الراحل بلا غضاضة من التصوير والأسئلة.
لكن بلا شك هذه الأهمية المؤكدة لتوثيق جنازات المشاهير لا تعطي الحق لانتهاك حرمة الموتى، أو إزعاج أسرة المتوفى بإحداث فوضى وتشتيت للحضور، وعدم مراعاة هذا الظرف المؤلم للجميع.
نرشح لك: وصفها بـ"شر لا بد منه".. هل يسمح أحمد السعدني بالتغطية الصحفية لجنازة والده؟
من يرتكب التجاوزات؟
اللافت أن كثير من المتواجدين في الجنازات والذين يرفعون هواتفهم للتصوير لا علاقة لهم بالصحافة، بل جزء كبير منهم أشخاص عاديين وأصحاب صفحات وقنوات على يوتيوب. وبالتالي وصف كل من يرفعه هاتفه في جنازة بأنه "صحفي" أمر غير حقيقي ومجحف لهذه المهنة. فكم عدد الصحف والمواقع الإخبارية في مصر أساساً ليكون هناك كل هذا العدد للتغطية؟!
هل هذا يعني أنه لا تجاوز من الصحفيين؟.. لا على الإطلاق، فهناك منتسبين للمهنة لا يكترثون لآدابها، ولا يهمهم سوى آخذ اللقطة وصناعة التريند، فيتجاهلون حرمة الموتى ويزيدون أحزان ذوويهم بهذا الهجوم خلال الجنازات. لكنها تبقى قلة في النهاية، فكما أننا نرفض وصم جميع الفنانين بصفات سيئة أو انطباعات بعينها عنهم لأن بعضهم يرتكبها، لا ينبغي وصم الوسط الصحفي أيضًا بالأمر ذاته، وتعميم إساءات القلة (في أي فئة كانت) على الكل.
أين الأزمة الحقيقية؟
بالنظر لأي حدث حولنا، سعيدًا كان أو حزينًا، نجد الجميع يرفع هاتفه للتصوير أولًا، وكأن توثيق الحدث أصبح أهم من الاستمتاع بالحدث ذاته، أو حتى من إنقاذ الناس، كما روى الإعلامي عمرو أديب في برنامجه، بأنه حين تعرض لحادث سير مميت فوجئ بالناس يلتفون من حوله لتصويره، دون أن يمد أحدهم يد المساعدة.. فهل كان هؤلاء أيضاً من الصحفيين؟!
وبعض المشاهير أيضًا يتجاهلون كل الأعراف مقابل الكسب من سبوبة التصوير واللايفات سواء على تيك توك أو غيره، فنجد فنانات لايف 24 ساعة، سواء كانت في المطبخ أو مع أسرتها أو حتى في كواليس التصوير، يصورون كل شيء حرفياً. فمثلاً الإعلامية الرياضية التي كانت تصور نفسها باكيةً خلال تلقيها العلاج في المستشفى، ممسكة الهاتف بيد بينما اليد الأخرى يضع فيها الطبيب الإبر العلاجية، وتتأوه بشدة مع دموع تنسال على خديها، لكنها رغم ذلك تصوّر نفسها للجماهير في "ستوريز" عبر إنستجرام، هل هذه أيضًا انتهكت الصحافة حرمة مرضها أم هي من فعلت ذلك بنفسها؟! وكيف يصدق الإنسان شخص يتجاهل آلامه لأجل التصوير واللايكات والشير؟
إن الأزمة عامة، وليست أزمة صحافة فحسب، ففكرة الإمساك بهاتف به كاميرا ووجود حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، جعلت كل إنسان في حد ذاته أداة إعلامية متنقلة لكل حدث، لذلك الأمر يحتاج إلى حملة مجتمعية متكاملة، وليس اعتبارها أزمة فئة معينة.
ولأن المبادئ والطباع لا تتجزأ، فإن صلاح السعدني لو أكمل مسيرته في الصحافة حتى أصبح رئيس تحرير أو حتى نقيباً للصحفيين، لدافع عن "شرف المهنة" الذي دنسه أولاً "قلة" من منتسبيها، باتخاذ قرارات حاسمة ضد المواقع التي ترتكب تجاوزات في جنازات المشاهير، ولوقف بالمرصاد أيضًا لكل من عمّم الإساءات على جميع الصحفيين، دون النظر لكونها أزمة تتخطى حدود مهنة بعينها.. بل جيل بأكمله.