"لطالما كانت نشأة الخير والشر وتمظهرهما في البشر موضع جدل فلسفي وديني. ولقد تمكن العلماء في العقود الأخيرة من إحراز تقدّم مهم في فهم الجوانب العلمية التي تحرّك الخير والشرّ فينا. فكلٌّ منهما يبدو أنه مرتبط بسمة عاطفية رئيسة هي التقمّص الوجداني (Empathy)، وهي قدرة الدماغ المتأصِّلة على الإحساس بما يشعر به شخص آخر. وقد وجد الباحثون أنّ التقمّص الوجداني هو الشرارة التي تشعل التعاطف في قلوبنا وتدفعنا إلى مساعدة الآخرين ممّن يعيشون حالة ضيق أو كرب".
هذا المقتطف عن مقال/تقرير ليوديجيت باتاشارجي Yudhijit Bhattacharjee في ملف عن الخير والشر يركّز بصورة خاصة على تحليل الاختبارات الوراثية والعوامل البيولوجية بموازاة الدراسات النفسية حول الموضوع، وذلك ضمن عدد يناير 2018 من مجلة National Geographic (ناشيونال جيوغرافيك العربية).
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: من يحكم الآخر؟.. الفصل الحادي والعشرون من كتاب "جينات أنثويّة"
بعدها، وتحت عنوان "تشريح التقمص الوجداني"، يرِد ما يلي: "باستعمال تقنية للتصوير بالمسح، يستطيع العلماء تحديد مواضع الدماغ التي تنشط عندما نُبدي تقمّصاً وجدانياً (Empathy) للآخرين. وبالجمع بين نتائج البحث هذه وغيرها – بدءاً بالتقييمات النفسية وانتهاءً بالاختبارات الوراثية – بدأ الباحثون بتحديد العوامل الأحيائية (البيولوجية) والبيئية التي تعزّز قدرتنا على التقمّص الوجداني أو تصيبها بالخلل".
يتوسّط الصفحتين 80 و81 من عدد المجلة المذكور رسمٌ/صورةٌ للدماغ، وفي مستطيل توضيحي صغير أسفل الرسم تحت عنوان "اللوزة الدماغية" كُتب: "لدى الأشخاص فائقي الإيثار نشاط عصبي أكبر في لوزاتهم الدماغية المتضخمة؛ وهي أجزاء من الدماغ مرتبطة بالاستجابات العاطفية المتعلَّمة ومعالجة المنبّهات المزعجة"؛ أمّا المستطيل التوضيحي الآخر على يسار الصورة فقد كُتبت عليه تحت عنوان "القشرة الأمامية الجبهية" الكلماتُ التالية: "تُظهر صورة لدماغ قاتل ادّعى الجنون... نشاطاً أقل في القشرة الأمامية الجبهية، وهو جزء من الدماغ يكبح السلوك الاندفاعي المتهور. ووجود عيوب في هذا الجزء قد يجعل المرء ميّالاً إلى أن يكون شخصاً عنيفاً".
لست من المندفعين تهليلاً بنتائج الأبحاث العلمية الحديثة وتبجيلاً لها، فقد ذهبت في أكثر من مقام وسياق إلى تأكيد ما جاء ملخّصاً في "طريق الحكمة السريع" كما يلي: "الأبحاث العلمية الموثّقة تؤكِّد ما تنفيه الأبحاث العلمية الموثقة الأخرى". وإذا كان ذلك يعني أنه لا يجب الركون إلى خلاصة أي بحث علمي حديث، فإنه في المقابل لا يعني بطبيعة الحال أنّ كل ما تقوله تلك الأبحاث خطأ قدرَ ما يعني أن أي بحث علمي - مهما يبلغ من الدقة والاستعانة بأحدث وسائل ومخرجات التقنية الحديثة –لا ينطوي على أية قداسة أو نتائج مطلقة الصحة، وذلك بحيث يبدو الأمر كما لو كان رحلة غير منتهية لمحاولات الإجابة على الأسئلة تكشف العديد من الجوانب المدهشة وتفجّر بصورة موازية مزيداً من الأسئلة.
والحال كتلك، نقرأ ملف "هكذا تصنع أدمغتنا الخير والشر" في المجلة ذات الطابع العلمي الرفيع بمزيج من التوقير والريبة ونحن نطالع ما تفصح عنه آلات التنقيب الحديثة في أدمغتنا من نتائج مثيرة ولكن ليست مطلقة الصحة بحال. هذا، وقد ظللت أقلّب صفحات الملف أملاً في الوقوع على اختراقات علمية بشأن الجنسين على هذا الصعيد ولكن دون جدوى، فالملف تضمّن إشارات إلى الأطفال واليافعين لتتبّع كيف تنشأ وتنمو بذور الخير والشر داخل البشر، مكتفياً بذلك دون التشعّب إلى بحث منشأ وترعرع تلك البذور لدى أشهر قرينين (خصمين؟) في الوجود.
البحث الصريح في "جينات" الخير والشر لدى آدم وحوّاء يوقع لا ريب في مأزق/تهمة التحيّز الجنسي Sexism، وإذا جرؤتْ دراسات علمية بحتة – مدعّمة بوسائل متقدّمة كتقنيات التصوير بالمسح وما شابه – على خوض تلك المنطقة الشائكة فالأرجح أنها تجري بحذر شديد، ولكن ليس في ظلال تكتّم تام بالضرورة، فعوضاً عن كلمتي الخير والشر الصريحتين يمكن استخدام العديد من الألفاظ المرادفة أو القريبة والتعابير المراوغة للإشارة إلى خلاصات تلك الأبحاث دون الخروج بنتيجة حاسمة لصالح أيٍّ من الجنسين في المعركة الخالدة رجوعاً إلى النزعتين اللتين تلخّصان جملةَ الطبائع البشرية على طرفي نقيض.
رأيْنا عند النظر إلى سؤال "من يحكم الآخر؟" أن بعضَ الثقافات القديمة قد بلغ به الحال أحياناً وفق بعض التفسيرات المستندة إلى مرجعيات دينية متطرفة أنْ "نعَتَ المرأةَ بصفات شيطانية ورأى في بعض أنماط أمزجتها المتقلّبة واستجابات جسدها الفسيولوجية التلقائية ما يوشك أن يكون رجساً من عمل الشيطان وليس فطرة ربانية وراءها أكثر من غاية وحكمة لا يقوم الوجود بدونها". وإذا كانت تلك الثقافات - ومن يميلون إلى الاحتفاء بنتائجها خلسة إلى اليوم (من الرجال؟) - قد جرؤت على إلقاء إجابة قاطعة على سؤال "من الطيب ومن الشرير؟"، فإن تلك الجرأة يقف من ورائها الانفعال أكثر مما تحثّ عليها الرغبة الخالصة والنظرة المتأنّية لسبر أغوار النفس البشرية في نسختيها الشهيرتين؛ فنصف المجتمع البشري الموصوم بالشرّ هذا – وفق تلك الرؤى – هو النصف الذي ينهض عليه مفهوم حفظ النوع أكثر مما ينهض على النصف الآخر؛ والأهم من الحفاظ على النوع البشري هو التنشئة التي ينهض بها ذاتُ النصف المجني عليه؛ أليس من العسير إذن استساغة الرواية القائلة بأن نصف المجتمع "الطيب العاقل" يوكل إلى نصفه "المجنون الشرير" مهمّة بذلك الحجم من الخطورة والجلال؟
بعيداً عن عنوان "الخير والشر" العريض، ثمة الكثير من التفاصيل شديدة التشعّب مما يمكن التبرّع بالحكم على أضوائه لصالح أحد الجنسين وضد الآخر بحسب كل سياق وبما لا يُوقع "القاضي" أو "القاضية" في حرج يُذكر سوى ما كان بتأثير تداعيات المناوشة الأزلية المعتادة بين آدم وحواء. وإذا كان لا بدّ من اختصار مسألة أولوية الخير والشر لدى الجنسين في بضع كلمات، فلا أبلغ عندي مما يلي: الخير والشرّ، فتّش عن أحدهما لدى المرأة تجد الآخر مع الرجل، وذلك بما يخص كل لمحة من كل قصة بصفة مستقلّة. هذا، ومن الجدير بالانتباه أنّ الطرفين قد يكون كلاهما طيّب أو كلاهماً شرير في نفس المشهد من نفس القصة، فليس من الحكمة الإصرار في كل مرة على وضع قرنَي الشيطان على أحدهما وهالة الملائكة على الآخر.
للتواصل مع الكاتب: