عندما يتعلّق الأمر بالإساءة أو التجارب غير المُرضية على وجه العموم فإن ذاكرة الإنسان تغدو في واحدة من أكثر حالاتها توهّجاً مهما تكن الأحداث بعيدة؛ وإذا صحّ أن الإنسان يتجاوز عن الإساءة – بحسب معيار كل شخص وحساسيّته في تقدير ما يُعتبر إساءة – في ضوء اعتذار لطيف من قِبل الطرف المسيء أو دخول طرف ثالث بداعي الوساطة أو حتى لمجرّد تأثير التهدئة التلقائية بمرور الزمان، فإن ما يجري في الواقع هو أن الحادثة لا تكون قد مُحِيتْ تماماً من ذهن وخاطر الطرف المُساء إليه قدَر ما تكون الإساءة قد ألقيتْ في ما يشبه سلّة إعادة التدوير (Recycle Bin) في انتظار أية إثارة أخرى من نفس المتسبّب لتعود الحادثة فتتصدر بتفاصيلها ذهنَ ووجدان "الضحية"، مهما يدّع الأخير القدرة على الصفح والغفران.
في كتابه "صناعة اللوم: المساءلة ما بين الاستخدام وإساءة الاستخدام" الصادر عن دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي ضمن مشروع "كلمة" سنة 2018، ترجمةً للأصل الإنجليزي The Blame Business: The Uses and Misuses of Accountability، وتحت عنوان الفصل السابع "أنا آسف"، يقول ستيفن فاينمَن Stephen Fineman: "للاعتذار معانٍ مختلفة بحسب الطريقة التي يُعبَّر عنه فيها ووفقاً للسياق الملازم له. فقد نتأسّف لمصيبة ألمّت بأحدهم دلالةً على التعاطف مع حاله، أو نقول كلمة "آسف" على سبيل الدعابة، في إشارة إلى عدم شعورنا بالأسف على الإطلاق. كما قد تُلفظ الكلمة كردة فعل انعكاسية لا إرادية نتفوّه بها من دون تفكير عند مخالفتنا آداب السلوك الاجتماعية؛ عندما نصطدم بشخص غريب أو نتأخر في الوصول إلى موعدٍ ما. قد نعتذر للحيوانات أو حتى للجماد، للموتى، للسيارات أو للنباتات".
يواصل فاينمَن بعد فقرة واحدة من الاقتطاف أعلاه: "يرتدي الاعتذار أهمية ومغزى كبيرين إذا جاء لعلاج أذىً نفسي أو خيانة للثقة. وفي هذه الحالات يتطلّب الاعتذار أكثر من مجرد التلفظ بكلمتَيْ "أنا آسف"، بل يجب أن يشمل أيضاً، ووفقاً لما يوصي به علماء النفس، اعترافاً بالإخفاق من قبل المعتذر، وتحديداً لطبيعة الإساءة، وتعاطفاً من جانبه مع الضحية (أي الإقرار بألمها والشعور بما تعانيه)، ويجب أن يكون الاعتذار غير مشروط (لا يتضمن أي تنبيه أو بند دفاعي أو عموميات غير محددة)، وأن يشمل إن أمكن إعادة اعتبار أو تعويضاً".
يتحدّث فاينمَن بصورة أساسية عن "الاعتذارات الرسمية" من قِبل المؤسسات أو الأشخاص الذين يشغلون مناصب مؤثّرة في تلك المؤسسات، ولكن ما سبق يكاد ينطبق تماماً على الاعتذارات الشخصية المحضة، أي تلك المتعلقة بعلاقات إنسانية واجتماعية بعيداً عن الأطر المؤسسية أو الرسمية من أي قبيل. وبالارتداد إلى مقدمة الكتاب، نرى المؤلف يستهل حديثه ببيان جانبَيْ اللوم المتناقضين من حيث الأثر النفسي وطبيعة مدار الموضوع على الصعيدين الشخصي/الاجتماعي أو الرسمي/المؤسسي: "ما أروع اللوم إذ يشكل حياتنا. فهو وسيلة حميدة لتحديد موقفنا، أشبه بمماحكة أو مزاح لطيف. قد يكون مؤذياً أو سامّاً قادراً على تدمير ضحاياه؛ يدمّر روابط الزواج ويحطم علاقات العمل... يضرب اللوم بجذوره عميقاً في شؤوننا اليومية حتى بات من السهل اعتباره أمراً مفروغاً منه، تحصيل حاصل، سلوكاً اعتيادياً نمارسه فحسب".
مَن الذي يلوم أكثر: الرجل أم المرأة؟ الأرجح أن حواء نفسها لن تجادل كثيراً بشأن كونها الأكثر لوماً، بل ستتباهى في الغالب بأنها أيضاً الأشدّ لوماً، ولكنها ستتدارك تلك الاعترافات الخطيرة بتصريح تؤكد فيه أنها لا تلجأ إلى اللوم إلّا عندما يكون مُستوجَباً ولا تتوجّه به إلّا إلى من يستحّقه من المتخاذلين أو المذنبين، رجالاً ونساءً على حدٍّ سواء.
حواء تلوم أكثر وأعنف لأنها تتعاطف بشكل أكثر تكراراً وحدّة، وعندما يتمّ خذلانها (بصرف النظر عن مدى دقة تقييمها لذلك الخذلان) فإن استجابتها تكون خاضعة تماماً لقانون نيوتن الثالث للحركة: ردّة فعل مساوية في المقدار ومعاكسة في الاتجاه.
ولكن الأهم في سياقنا هذا هو السؤال: ماذا تصنع المرأة بعد اللوم، خاصة عندما يكون حادّاً في أعقاب مشكلة معقدة أو عنيفة؟ الإجابة الأرجح: تستمر حواء في اللوم بعناد (وربما لذة) في البداية، ثم يتواصل عنف اللوم بحسب حدّة المشكلة وطبيعة الشخص المتسبّب وبحسب ردة فعل ذلك الشخص في المقابل تجاه "فعلته" (بصرف النظر عن أحقّيته بالإدانة والعقاب من وجهة نظره الشخصية).
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: من الطيب ومن الشرير؟.. الفصل الثاني والعشرون من كتاب "جينات أنثويّة"
ماذا إذن لو تطاول الزمان على مشكلة ليست كبيرة أو تقدّم الشخص المتسبّب في ألم عميق باعتذار صريح لحوّاء؟ ليس من السهل الإدلاء بإجابة قاطعة لهذا السيناريو، وبرغم أن الاستجابة تعتمد بشكل كبير على طبيعة كل امرأة على حدة فإن حواء إجمالاً قد تغفر في مثل تلك الحالات بدرجة أو أخرى لكنها لا تنسى. وعند المقارنة مع آدم في الموقف ذاته فإن الرجل – بصفة عامة – أقرب لأن يبادر إلى الصفح ثم النسيان بعد حين، وإن يكن آدم يضع ما نسيه بصورة تلقائية في سلة إعادة تدوير ثم يعود فيستعيده – بصورة تلقائية كذلك – عند تكرار وقوع المشكلة مع الشخص نفسه.
لا نقول إن حواء ليست لها سلة إعادة تدوير لمواقفها تجاه المشاكل القديمة، ولكنها أكثر وعياً ويقظة من آدم بحيث تبدو كما لو كانت في حالة متابعة وإعادة حساب مستمرة لما بداخل سلة إعادة التدوير من المشاكل والاستجابات.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])