إذا كانت الشهرة مثل الحادثة التي لا يمكن ضمان نتائج التنبّؤ بها مثلما يمكن الإسهاب باطمئنان في بيان أسبابها بعد أن تقع، فإن النفاذ إلى قلوب الناس وتوسّدها حالة أشدّ خصوصة من حيث صعوبة التنبّؤ، لا سيما إذا لم يكن أولئك الناس فئة بعينها في محيط اجتماعي أو عملي محدّد بل جماهير عريضة من كل الفئات ومختلف الأعمار على امتداد رقعة في اتساع العالم العربي.
صلاح السعدني ممن حظوا بالشهرة لا ريب، لكن شهرته من نوع مخصوص؛ والشهرة على كل حال كبصمات الأصابع، لا تتطابق من حيث حجمها أو طبيعتها عند المقارنة بين مشهورَين.
أكاديميّاً، درس السعدني الزراعة ولم يدرس التمثيل، ما جعله أشدّ تلقائيةً وتحرّراً في الأداء؛ يتوغّل في أعماق شخصياته ولكن دون أن يفقد النظرة البانورامية إلى طابع الشخصية من زاوية المتلقين لا مجال رؤيته كممثل وحسب، فيُعينه ذلك على أن يسيطر على شخصيته المؤدّاة وليس العكس كما قد يفعل ممثل آخر ينغمس في الدور فتحرّكه الشخصية كما تشاء تحت نشوة التقمّص الذي يغدو أحياناً زائداً على الحاجة؛ والإفراط في التمثيل كالتفريط فيه شأنَ كل ما في الحياة، وأرجو تمرير المبالغة بداعي الجناس والطباق في التعبير البلاغي الطريف.
قد يتخيّل المشاهد أحياناً وهو يتابع صلاح السعدني أن على ذلك الممثل الموهوب أن يجتهد قليلاً من أجل المزيد من الانفعال العاطفي أو الصخب في الأداء الجسدي، لكن المشاهد لا يلبث أن يجد نفسه قد انسرب إلى جوهر الشخصية المؤدّاة وتفاعل معها عميقاً عبر أداء فائق السلاسة يتحاشى المزايدات في الانفعالين العاطفي والجسدي مؤمناً ببلاغة البساطة في التعبير؛ وبساطة التعبير فنّ لا يجيده سوى المبدع المطبوع.
يبدو أن السعدني إنسان مطبوع قبل أن يكون ممثلاً مطبوعاً؛ وليست ثمة قاعدة من ذلك القبيل بالضرورة، فقد لا يعكس أسلوبُ الممثل شخصيتَه، وليس في ذلك عيب ابتداءً، لكن اتّساق الطبعين – في الحياة الشخصية والعملية – يريح صاحبه في الغالب، والأرجح أن السعدني كان مرتاحاً إلى درجة رفيعة من درجات التصالح مع الذات على ذلك الصعيد.
لم يُعرَف الرجل بوصفه ممثلاً كوميدياً في المقام الأول، فقد اشتملت أدواره على الكوميديا وغيرها؛ ولن أقول بأنه يبدو كما لو كان يفضّل الأدوار ذات الطابع الكوميدي ويبدع فيها أكثر من غيرها بقدر ما أقول بأنه كان يبحث في شخوصه ما وسعه الأمر عن لمسات ساخرة ولاذعة يزيّن بها أشدّ أدواره التراجيدية تعقيداً.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: لا تنسى أم لا تغفر؟.. الفصل الثالث والعشرون من كتاب "جينات أنثويّة"
أداء السعدني وحضوره العميقان يؤهّلانه لأن يُعَدّ في طبقة الممثلين الموهوبين الأولى في مصر والعالم العربي، لكنه برغم ذلك لم يكن الفتى الأول، ليس في السينما والمسرح فحسب، بل حتى في التلفزيون بيته الذي سطع نجمه من خلاله. تلك من "لوغاريتمات الشهرة" التي لا يعنينا تشريحها وحلّها ها هنا بقدر ما تعنينا الإشارة إلى أن مِن أهم وأجمل ما انتبه إليه الرجل هو إدراكه أن خصوصيته لا تكمن في أن يُوضع اسمُه قبل غيره في مقدّمة/تتر العمل الفني بل في أن تُنقش صورة شخصيته المؤدّاة في أذهان ووجدان الجماهير مميّزةً على توالي الأجيال.
ولعل من غرائب شهرة ممثل في عمق موهبة السعدني وخصوصيتها أن دوره الذي رسخ أكثر من غيره في أذهان الجماهير حبّاً وتقديراً وكرامة هو ذلك الذي جسّده بعد حوالي ربع قرن من انطلاقته الفنية؛ فالعمدة هو الأعمق حضوراً في وجدان الجماهير عند استحضار تاريخ السعدني الفني، إذ أتاح أسامة أنور عكاشة لصلاح السعدني في "ليالي الحلمية" استخلاص أدق التفاصيل الكوميدية وأعمق درجات السخرية لدى شخصية سليمان غانم، متجاوزاً بذلك الصورة النمطية الصارمة للعمدة في تاريخ الدراما المصرية.
سمات المبدع الشخصية بصفة عامة شديدةُ التأثير على إنجازه وبصمته المائزة داخل إطار إبداعه؛ وقد امتلك السعدني شخصية اتّسمت بالانفتاح الثقافي والقدرة على التواصل الفعّال والتأثير من ثم على الآخرين، فأفضت سماته الشخصية على تلك الشاكلة مع موهبته الأصيلة وأدائه المطبوع إلى تشكيل صورة صلاح السعدني المنقوشة بعمق ومحبة في وجدان الجماهير المصرية والعربية على حدّ سواء.
للتواصل مع الكاتب: