رأينا من قبل أن "الأفضل للرجل أن يمشي على صراط مستقيم"، وذلك استلهاماً لنصيحة مبطّنة من سيدة وقور في مجلس نساء كنّ يتنازعن أطراف الحديث عن ألاعيب الرجال؛ وأشرنا في السياق نفسه إلى أن السؤال أيهما يكذب أكثر: الرجل أم المرأة؟ سؤال محفوف بالمزالق والشراك من الصعب/المستحيل الانتهاء فيه إلى إجابة حاسمة ترضي الطرفين المتنازعَين على أن ينسبا مكارمَ الأخلاق والإنجازات الوجودية كلٌّ إلى نفسه.
وفي ضوء اقتطاف عن خبير العمليّات السريّة Covert Operations ديفيد كريغ David Craig نقلاً عن كتابه الصادر في نسخته العربية بعنوان "كشف الكذب" عن الدار العربية للعلوم ببيروت عام 2012 ترجمةً للأصل باللغة الإنجليزية بعنوان Lie Catcher، رأينا أن "حواء تحديداً ليست بحاجة إلى جهود السيد كريغ ورفاقه لتعرف كيف تضبط آدمها متلبّساً بالكذب، خاصة عندما يلعب آدم دور شريك العمر الملاصق لها ليل نهار"، ذلك رغم أن "القياس المنطقي يقتضي أن يكون آدم الزوج كذلك بارعاً في ضبط حوّائه وهي تكذب إذا كان مناط القدرة على كشف الكذب هو الرفقة اللصيقة، ولكن قدرات آدم على هذا الصعيد تبدو متواضعة بوضح"، واستعرضنا بعض الاحتمالات التي تفسّر تواضع قدرات آدم في قراءة جسد حوائه وهي تكذب.
بالعودة إلى ديفيد كريغ وهو يتحدّث في القسم الأول من كتابه عن "طبيعة الكذب" نقرأ: "على الرغم من النية الطيبة الاعتيادية التي تدفع المرء لقول كذبة مركِّزة على الآخر، فإنها تبقى كذبة من دون أدنى شك، لأنها تقال عمداً بقصد حجب الحقيقة عن شخص آخر، ومع ذلك، فمن الصعب انتقاد شخص يستخدم هذا النوع من الكذب، بل على العكس من ذلك تماماً، إذ إننا نتوقّع من معظم الناس فعل الشيء نفسه... أقترح عليك الاحتفاظ بمفكرة كذب لمدة أسبوع تحصي فيها كل كذبة تقولها، مهما كانت صغيرة. إن كنت صادقاً تماماً مع نفسك، فستُصاب بالدهشة لكثرة ما تكذب، ولضرورة الكذب أيضاً. وإذا كنت لا تزال غير مقتنع، فحاول ألا تكذب لمدة أسبوع واحد فقط؛ ستجد أن ذلك صعب جداً ومن المرجّح أنك ستؤذي الناس من خلال قول الحقيقة دوماً".
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: صلاح السعدني والنفاذ إلى قلوب الجماهير
وعندما يقول كريغ: "في الواقع، يسمح المجتمع بل يتوقع هذا النوع من الكذب كجزء من تفاعلنا الإنساني الطبيعي. إن هذا النوع من الكذب يمثل زيت التشحيم الذي يحافظ على دوران عجلات التفاعل الاجتماعي بنعومة وسلاسة، من خلال تجنب أي احتكاك غير ضروري"، فإنه يشير هنا إلى لمحة مما فصّلناه في كتاب "نحن الممثلين" دون أن ننتهي بالضرورة إلى الموافقة على أن الكذب/التمثيل مسألة لا حرج منها قدْرَ ما هو أمر من الواضح أنه لا مناص منه بدرجة أو أخرى بصرف البصر عن الحكم الأخلاقي على الكذب/التمثيل استناداً إلى أية مرجعية؛ بل رأينا أن المرجعيات الأخلاقية نفسها لا تسلم من الكذب/التمثيل حتى إذا افترضنا أن النوايا من ورائها حسنة.
يبدو التمثيل كما لو كان التجسيد الذي يمرّر مشروعية الكذب في حياتنا؛ والتمثيل هنا بطبيعة الحال يشمل طائفة طويلة وعريضة من الأقوال والأفعال المتباينة في طبائعها ودرجاتها والمتداخلة بشدّة؛ ولعل أظهر صور التمثيل الذي تدور حوله فكرة "نحن الممثلين" هو أداؤنا لأدوارنا التي نجسّدها في الحياة على مختلف الصعد الشخصية/الاجتماعية والعملية/الرسمية.
ماذا عن قدرات حواء التمثيلية خلال علاقاتها مع آدم تحديداً، إذا افترضنا جدلاً أنه من الصعب أن ينطلي تمثيل حواء على أختها حواء؟ الغالب أن الإجابة – سواء أكانت من رجل أو امرأة - ستذهب إلى تأكيد أن تلك القدرات ليست عالية فحسب وإنما مذهلة على الأرجح؛ والمقصود بقدرات حواء التمثيلية هو شيء من قبيل مهارتها في إقناع الآخر (آدم غالباً) بمشاعر غير – أو على الأقل أدنى من – تلك التي تظهرها له، أو حمل ذلك الآخر على مساندتها في إنجازِ غايةٍ ما انطلاقاً من تعاطفه مع أسباب واهية – أو حتى غير حقيقية – تظهرها له على أنها ضرورية وعاجلة.
حواء بارعة في التمثيل على ذلك النحو لأن التمثيل يختلط لديها بالحقيقة على نحو فريد، فهي قادرة على الانقلاب في لحظة من حالة انفعال عاطفي بالغ الحدة (استشعار حزن أو ضيق عنيف تعاطفاً مع عزيز يمرّ بظروف قاسية على نحو استثنائي مثلاً) إلى "وضعية" التعامل العقلاني الجاد مع أمر واقع إذا اقتضى السياق. وتفسير ذلك لا يكمن في أن حواء غير صادقة في انفعالها؛ كل ما هنالك أنها تمتلك القدرة على أن تدع مشاعرها الجارفة في أية لحظة تتراجع سريعاً إلى خلفية وجدانها فتحتجب – على قدر ما يتطلّب السياق - دون أن تتلاشى، بحيث تستطيع أن تصرف انتباهها إلى حدث آخر يجري أمامها تجد نفسها مضطرة للتعامل معه، وبحيث تعود تلك المشاعر الجارفة إلى واجهة وجدانها فور انقضاء الحدث المقتحم أو حيثما يستدعي السياق لاحقاً.
حواء بذلك ممثلة بارعة ليس بغرض الخداع؛ ولكن إذا تطلّب الأمر بعض - أو كثير من – الحيلة/المكر، فليس غريباً أن تكون لدى حواء القدرات التمثيلية نفسها؛ ومن الطبيعي أن تلجأ إلى استخدام تلك القدرات بقدْر حاجتها إليها من أجل إتمام مصلحة لها وليس بالضرورة طمعاً في السطو على ما يخصّ غيرها من المشاعر أو المكتسبات.
حواء ممثلة بالفطرة، بل إن الواقع/الحقيقة والتمثيل/الخيال – سواء في نطاق المشاعر أو على صعيد الأفعال - يختلطان لدى حواء فيمتزجان بحيث لا يعرف غيرها أن يفضّ الاشتباك بين المتناقضين الممتزجين. الأدهى من ذلك أن حواء نفسها قد يختلط عليها أمر حقيقتها/واقعها وخيالها/تمثيلها فينطلي بذلك السحر على الساحر. مثلاً، تحبّ حواء أحياناً – وأحياناً فقط – أن تُشعر آدمها بأنه يملكها وأنها خاضعة تماماً لسلطانه الكامل، فيستعذب آدم المغرور/المسكين ذلك الخضوع ويتصرّف حيال حواء وفق مقتضياته حتى تفاجئه الأخيرة عفواً بما يوقظه في لحظة من حلم جميل تتصالح فيه الرومانسية والعنفوان فتُسلس الأولى القيادَ للأخير.