إلقاء السؤال كما في العنوان أشبه برمي قنبلة في وجوه النساء، لكن تلك القنبلة سترتدّ سريعاً على الأرجح لتنفجر في وجوه من ألقوها من الرجال. ألم يتجمّل الرجال كذلك بمساحيق التجميل والشعر المستعار على مرّ العصور؟
ضمن ملف لناقدة الأزياء/الموضة الأمريكية روبن غيفان Robin Givhan نُشرت ترجمتُه بعنوان "ثورة ناعمة في دنيا الحُسن والجمال" في عدد فبراير 2020 من مجلة National Geographic (ناشيونال جيوغرافيك العربية)، وبتتبّع "سحر الجمال" في مصر القديمة 3100 – 30 قبل الميلاد، ترِد الإشارة إلى "مستحضرات تجميل درامية" كما يلي: "كان الجنسان معاً يتزيّنان بمكياج عين كثيف – غالباً ما كان كحلاً – لتغميق الجفون، وكان يُستعمل لأغراض دينية وطبية. كان يُعتقد أن هذا المعدن الداكن يقي العين ضد الالتهابات ويدرأ الشرور، وكان في بعض الأحيان يُكمَّل بأصباغ جفون خضراء. كان الشعر المستعار المجعّد أو المجدول شائعاً أيضاً".
ليس في مصر القديمة وحدها وإنما في كل أنحاء العالم لم يكن التجمّل حكراً على النساء؛ فالكحل مباح شرعاً للرجال في الإسلام، بل إنه في حكم السنّة لدى البعض، وكذلك صبغ الشعر بالحناء. أمّا الشعر المستعار فلم يستخدمه الرجال من باب الضرورة فقط لتغطية رأس أصلع وإنما زينةً وجلباً لمزيد من الوقار، فقد كان الشعر المستعار في أوروبا شائعاً لدى الرجال للدلالة على المكانة الاجتماعية وارتداه بعض أكثر أصحاب المهن وقاراً: المحامون، القضاة، وحتى الأساقفة. أمّا حديثاً فقد تجاوز الرجالُ التزيّنَ والتوقّرَ بالشعر المستعار إلى زراعة شعر حقيقي على رؤوسهم الملساء.
يقول تشالز باناتي Charles Panati في الفصل التاسع بعنوان "مستحضرات التجميل" من كتابهExtraordinary Origins of Everyday Things ، الترجمة العربية بعنوان "قصة العادات والتقاليد وأصل الأشياء" عن دار الخيال ببيروت سنة 2016، يقول: "ينفق الرجال والنساء في الولايات المتحدة الأمريكية على مستحضرات التجميل ما يزيد على خمسة مليارات دولار وهم يتنقلون بين صالونات تصفيف الشعر ومراكز العناية بالجمال ودكاكين بيع مواد الزينة ومستحضراتها. لن يثير الدهشة ظهور تلك البدع في احتفالات الزفاف قبل ثمانية آلاف عام. بدأت عملية طلي الجسم والوجه بالمساحيق والبودرة وتعطيرها وصبغ الشعر ضمن الشعائر الدينية وطقوس الحرب منذ بداية تدوين التاريخ. عثر علماء الآثار أثناء حفرياتهم على أدوات لطحن ومزج مساحيق الوجه وطلاء العيون يرجع تاريخها إلى 6000 سنة قبل الميلاد".
يواصل باناتي: "لم يكن نصيب الرجال المصريين من الزينة أقل من نظيره للنساء، لا أثناء الحياة ولا بعد الممات. فكانوا يجهزون قبورهم بكميات وافرة من مواد الزينة لاستخدامها في الحياة الآخرة. تم العثور في قبر الملك توت عنخ آمون عام 1820 على جرات صغيرة بها كريمات للجلد وعلى أحمر للشفاه ودهونات وردية اللون للوجنتين، وكانت المواد المكتشفة بحالة جيدة تحتفظ بعبيرها المميز وتصلح للاستخدام. لقد أسرفت شعوب مختلف الحضارات باستثناء اليونانيين خلال العصور التي سبقت المسيحية باستخدام مواد التجميل من مساحيق وعطور وملونات. أحب الإغريق المظهر الطبيعي وذلك في تعارض مع الرومان الذين اقتبسوا ومارسوا المكياج المصري. لم يكن (لدى) الإغريق في الفترة التي سادت ما بين الغزوات المتتالية لبلادهم في القرن الثاني عشر قبل الميلاد وحتى عام 700 ق.م. سوى وقت ضئيل ينفقونه على تزيين أنفسهم. وسادت فيهم، بتأسيس مجتمعهم وانقلابه إلى آخر قوي خلال العصر الذهبي في القرن الخامس قبل الميلاد، فكرة الذكورة والقساوة، وانتشرت لديهم علوم الفلسفة والرياضيات، فعدوا النساء بمثابة العبيد أو قطع الأثاث المنزلي، عدهم للرجل العادي غير المتزين الكائن البشري المثالي".
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: "أحب المرأة... لا أحب المرأة".. الفصل الخامس والعشرون من كتاب "جينات أنثويّة"
كنت أود أن أقف عند هذا الحدّ من الاقتباس عن الفصل التاسع من كتاب تشالز باناتي المثير لولا أن ما يلي مغرٍ بمواصلة الاقتطاف للوقوف على الدلالات المتأرجحة للجمال والتجمّل لدى الشعوب عبر العصور؛ فإذا كانت الزينة كما رأينا غير مقتصرة على النساء وإنما شملت الرجال أيضاً بدرجات متفاوتة من زمان لزمان ومن مكان لآخر، فإن استنكار التزيّن على الرجال (بحيث يُعدّ الابتعاد التامّ - أو شبه التام - عن التزيّن بالنسبة للرجال هو الأصل الداعي إلى الاحتفاء) فكرة لم تخلُ منها المجتمعات القديمة كذلك ولا تزال حاضرة في بعض مجتمعات عصرنا هذا، بصرف النظر عن تحرّي الصرامة في تطبيق الفكرة وعن المراوغات متعددة الأشكال والألوان للالتفاف عليها.
يتابع باناتي: "اقتصر استخدام المقتبس من المصريين خلال تلك الفترة على المومسات، فقد عرفت خليلات الأغنياء دهن الوجوه وتصفيف الشعر وتعطير الجسد، وعطّرن أنفاسهن أيضاً، وذلك بحمل سائل أو زيت عطري في أفواههن، حيث يوزّع في الفم بواسطة اللسان، وكان الملطّف يبصق خارجاً بطريقة حكيمة بالخفية في اللحظة المناسبة. إنه الملطف الأول من نوعه في العالم". هنا نصل إلى حيث يتجاوز استنكارُ التزيّن الرجلَ إلى المرأة أيضاً فلا يُعدّ قابلاً للتمرير إلّا لدى أشد فئات النساء استهجاناً ونبذاً من قِبل المجتمع.
استكمالاً للسؤال الذي بدأنا به يبرز تساؤل آخر: لو طُرِح تحدّ من نوع خاص (وخطير؟) بحيث يبتعد النساء والرجال تماماً عن التجمّل ويتركون أجسادهم على طبيعتها فمن سيكون الأجمل؟ الواقع أن أحداً من الجنسين لا يبدو منشغلاً بالإجابة على أيٍّ من السؤالين، فالمسألة أقرب إلى أن تكون تواضعاً ضمنياً في المجتمعات على مدى التاريخ بما لا يخلو من التأرجح بدرجات متفاوتة: أن يُترَك التجمّل للنساء على تباين ألوانه وأن ينصرف الرجال إلى التباهي بالقوة على اختلاف أشكالها.
غير أن ذلك التواضع الضمني لا يخلو من المناوشات المتفاوتة ما بين الخفيف العابر والثقيل الموجع؛ وكنت أظن أن سخرية آدم من انهماك حواء في التزيّن بدعة عصرنا الحديث، لكن يبدو أن الأمر موغل في القدم، والعهدة في الرواية التالية على تشالز باناتي: "ثمة أدلة موثقة تؤكد امتلاك النساء الرومانيات لكل الأصناف والعناصر المتوفرة في مواد تجميل هذه الأيام. قال أحد الشعراء الهزليين في القرن الأول يداعب صديقته واسمها غالا: يبقى شعرك طوال الوقت الذي تقضينه في المنزل تحت يد مصففة الشعر، وتخلعين في الليل بدلة أسنانك ثم تنامين محشورة بين مئات من صناديق مواد التجميل، إن وجهك نفسه لا ينام معك، لأن تقاطيعه مصطنعة ومزيفة، فأنت تغمزين الرجال بعين من تحت حاجب سحبته من الدرج ذلك الصباح".
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: حواء تمثّل ولا تمثّل.. الفصل الرابع والعشرون من كتاب "جينات أنثويّة"
ليس أدلّ على ثقة حواء وجرأتها من أنها تتجاوز أمثال تلك المناوشات الساخرة على اختلافها وتبايُن دوافعها بثبات منقطع النظير، فهي واثقة من أنها حتى مع هذا الذي تُعيَّر به على أنه "زيف" – وربما تحديداً بسبب هذا "الزيف" – تستطيع أن تسحب آدم وراءها إلى حيث تشاء.
والحال كتلك، ألم يكن جديراً بآدم أن يسخر من نفسه لأنه ينساق خلف تلك الزينة/البهرجة التي تخفي حقيقة يعرفها تماماً؟ السؤال الأهم، وبعيداً عن ثبوت انخراط آدم نفسه في اجتراح "جريمة" التزيّن عبر العصور كما رأينا، ألا يُخفي الرجال كثيراً من حقائقهم ببهرجات معنوية تتيح لهم أداء أدوارهم الاجتماعية بمزيد من الغرور؟
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي| [email protected]