عمرو منير دهب يكتب: حواء وخلافات العائلة.. الفصل السابع والعشرون من كتاب "جينات أنثويّة"

 تميل الصورة النمطية لتقييم موقفَي المرأة والرجل تجاه العائلة إلى ترجيح كفة المرأة باعتبارها أكثر تقديساً للعائلة، وهي بصفة عامة صورة رائجة حبّاً وكرامة من الجميع رجالاً ونساءً، دون إغفال الاستثناءات الرجالية/الذكورية التي تؤكّد قاعدة التفوّق الأنثوي في تقديس الحياة العائلية.

داخل الصورة المنمّطة لتقديس حواء للعائلة الكثير من التفاصيل المنمّطة بدورها، ولكن بما لا يخلو من الخلل أحياناً بداعي التعميم. رأينا عند قراءة "حواء وصلات القُربَى المختلفة مع الرجل" أنه "ليس من الدقة بحال تنميط سلوك المرأة تجاه الرجل؛ ولن أستشهد هنا بموقف الأم أو الأخت أو الابنة أو الزوجة تجاه الرجل نفسه، بل بموقف المرأة نفسها تجاه أربعة رجال أحدهم أبوها والثاني أخوها والثالث ابنها والرابع زوجها. تتباين استجابات حواء تجاه الرجال الأربعة بما يصعب إجماله في قاعدة سلوكية/نفسية واحدة، وإن يكن التباين الأوضح يتجلّى في استجاباتها تجاه الزوج تحديداً مقابل الثلاثة الآخرين: الأب والأخ والابن". 

بذلك، من الصعب تثبيت صورة القداسة العائلية لدى حواء في إطار واحد وهي على ذلك المدى من الاختلاف المتراوح بين ما هو طفيف مستتر وبين ما هو عظيم بيِّن، وهو اختلاف يطال طبيعة الاستجابة تجاه المشاعر أكثر مما يطال المشاعر ذاتها بالضرورة؛ ومع الانتباه إلى أننا تناولنا في ذلك المقام اختلاف استجابات حواء ضمن علاقاتها مع رجال/ذكور العائلة فقط ولم نتطرّق إلى علاقاتها مع نساء/إناث العائلة، وهي مسألة لا تخلو من تعقيدات وتفاصيل لا تقلّ إثارة عن تلك التي تكتنف تفاصيل علاقات حواء مع أفراد عائلتها من الذكور.

في مذكّراتها الصادرة في ترجمتها العربية نسخة دار الأهلية بعمّان سنة 2018 تحت عنوان "مذكّرات فتاة رصينة"، تقول سيمون دو بوفوار Simone de Beauvoir: "وبدأت أضيق بأسري في البيت، وكانت أمي تصلّي من أجلي نحو السماء. وكانت هنا في الأرض تئن أسفاً على ضلالي. وكانت كل صلة قد انقطعت ما بيننا. وكنت على الأقل أعرف أسباب ذلك. أما أبي، فكان جفاؤه يثير دهشتي، فقد كان عليه أن يهتم بجهودي وتقدّمي وأن يحدّثني بصداقة عن المؤلفين الذين كنت أدرسهم، ولكنه في الواقع لم يكن يظهر لي إلا اللامبالاة، بل نوعاً من العداء الغامض، وكانت ابنة عمي جان قليلة الصبر على الدراسة، ولكنها كانت كثيرة الابتسام وشديدة التأدّب. فكان أبي يردّد أمام الجميع أنه كان لأخيه فتاة لذيذة، ثم يتنهّد... وكان ذلك يغيظني، ولم أكن أدري سبب سوء التفاهم هذا الذي كان يفصل بيننا والذي ثقل كثيراً على حداثتي". 

وفي مذكراتها الصادرة في نسختها العربية بعنوان "المتعلمة" عن دار مدارك بالرياض سنة 2020، ترجمةً للأصل الإنجليزي بعنوان Educated، تقول تارا ويستوفر Tara Westover: "لم يأت هذا السلام بسهولة. فقد أمضيت سنتين وأنا أعدّد عيوب أبي، أحدّث العدد باستمرار، كما لو أن ذكر كل سخط، كل تصرّف، سواء أكان حقيقياً أم متخيّلاً، من القسوة والإهمال، سيبرّر قراري بأن أقطعه من حياتي. وعندما يصبح مبرّراً، فإني أظن أن الإثم الخانق سيحررني وسأتمكن من التقاط أنفاسي... عندما كان أبي في حياتي، يصارعني ليسيطر على تلك الحياة، كنت أراه بعيني جندي، من خلال ضباب من الصراع. لم أستطع أن أدرك صفاته اللطيفة. عندما كان يقف أمامي، شاهقاً، ساخطاً، لا أتذكر كيف، عندما كنت صغيرة، كانت ضحكته تجعل بطنه يهتزّ وتجعل نظارته تلمع. في وجوده المتجهّم، الصارم، لا أتذكّر أبداً الطريقة اللطيفة التي كانت تتحرك فيها شفتاه، قبل أن تحترقا، عندما كانت ذكرى ما تجعل الدموع تذرف من عينيه. أتذكّر هذه الأشياء الآن فقط، وقد أصبحت أميال وسنوات تفصل بيننا. لكن ما حدث بيني وبين أبي أكثر من الزمن أو المسافة. حدث تغيير في النفس. فأنا لست الطفلة التي رباها أبي، لكنه الأب الذي رباها". 

دُعيتُ مرّة من قِبل المدرسة الابتدائية إلى محاضرة عن التعامل مع الأبناء في مراحل الدراسة الأولى؛ كانت المتحدّثة ذات خبرة لا بأس بها في أكثر من بلد وعبر أكثر من ثقافة. ذكرتْ المحاضِرة أن اختلاف الثقافات أمر مربك يُوْقِع أحياناً في مواقف مزعجة، وهو وارد حتى بين أقرب الثقافات، مشيرة إلى تجربتها مع التلاميذ في مدرستين الأولى بريطانية والثانية أمريكية. ما يعنينا من المحاضرة في هذا السياق هو ما لفتني يومها من شأن المتحدّثة وهي تحكي بتأثّر واضح عن تجربة لها مع أبيها في طفولتها وكأنّ ما حدث كان البارحة. قالت إنها كانت تقف أمام المرآة وهي ترتّب شعرها فمرّ أبوها قربها وقال لها متهكّما: تظنّين نفسك جميلة؟ ثم مضى؛ وجّهت المتحدثة مباشرة بعد سردها هذه "الحادثة" كلامَها للحاضرين كأنها تردّ بانفعال على أبيها: لم يكن ثمة أي داعٍ لقول هذا الكلام. 

ما سبق مواقف ثلاثة لم تكن الابنة في أيّ منها على وفاق مع الأب الذي هو وفق الصورة المنمّطة مَثَل الابنة الأعلى دون نزاع؛ ومن المهم الانتباه إلى أنه حتى مع المواقف الخلافية الشديدة بين الفتاة وأبيها لا يفقد الأخير وضعه كمثل أعلى بالضرورة، بل إنه مؤكداً لا يفقد ذلك الوضع كُلّيّةً، إذ يبقى في ذاكرة البنت الكثير من صور ومواقف أبيها في الطفولة الباكرة مما يصلح لأن يصحبها العمر كلّه بوصفه تجسيداً لكل ما هو خارق. الأدعى إلى الانتباه في هذا السياق أن حواء - بالإضافة إلى دافعها العميق المتعلق بتقديس العائلة بصفة عامة – تسعى جهدها لتدارُك مشاكلها مع الأب مهما تكن معقدة إكراماً لنموذج المثل الأعلى الذي تحب أن تحافظ عليه ناصعاً شامخاً مدى الحياة وعلى تقلّب الأحوال. 

مع قدسية العائلة بالنسبة لحواء، ليس الأب وحده هو من تسعى الابنة إلى تدارك علاقتها المتصدّعة معه لأيٍّ من الأسباب، فحواء عادة لا تكابر في علاقاتها العائلية القريبة، خاصة من الدرجة الأولى، إذ لا تدع العزة بالإثم تأخذها متى ما لاحت بارقة صلح، سواء أكانت هي الخاطئة أم بادر أحدهم بالخطأ تجاهها. ولأن حواء ليست ملاكاً فإن تلك ليست قاعدة لا يطالها تغيير، فالاستثناءات كثيرة، ليس فقط رجوعاً إلى طبيعة كل امرأة وإنما كذلك رجوعاً إلى طبيعة المشكلة وطبيعة العلاقة ذاتها من قبل.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: جميلة أم متجمِّلة؟.. الفصل السادس والعشرون من كتاب "جينات أنثويّة"

بصفة عامة، وبعيداً عن الميول الشخصية شديدة الخصوصية بالنسبة لكل حالة منفردة، تمنح حواء تقريباً كل أفراد العائلة أقدارهم المستحقة من الاهتمام مناصفة، بحيث لا يتباين القدر الممنوح لأيٍّ من الأفراد قياساً إلى غيره بقدر ما تتباين طبيعة الارتباط بكلٍّ منهم. وإذا كانت كل فتاة بأبيها معجبة فهي بأمها شديدة الالتصاق بحكم الميول والاهتمامات؛ وإذا كانت الأخت شديدة الاعتزاز بإخوانها الفتيان فهي شديدة الالتصاق بأخواتها الفتيات. كل ذلك مستقر عميقاً في وجدان حواء، بحيث يبدو كالبوصلة التي تشير دوماً في اتجاه أفراد العائلة، بل كالمغناطيس الذي يشدّها باستمرار إلى أولئك الأفراد حتى إذا كانوا متفرقين في أماكن متقابلة على تقلّبت أحوال الزمان بين الوئام والخصام.           للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي| [email protected]