للمقاومة أشكال وأساليب عديدة، والتعبير عن الرفض والغضب له عدة طرق، ومنذ أحداث 7 أكتوبر، يحاول كل شخص إيجاد طريقة يترك من خلالها تأثيرا في دعم فلسطين ضد الاحتلال، ومنها المقاطعة.
وجبات ماكدونالدز
بدأ الأمر عندما أرسل ماكدونالدز وجبات مجانية لجنود الاحتلال،
فشعر الكثيرون بالاشمئزاز من تلك الشطائر التي اعتادوا عليها وأحبوها منذ سنوات كبارا وأطفالا، وكان قرار المقاطعة حاسما قويا لم يتغير.
مقاطعة لدول كاملة
ثم توالت دعوات المقاطعة لمنتجات الشركات التي أعلنت موقفها الداعم للاحتلال وتصاعدت وتيرة نبرة المقاطعة حتى انتقلنا من مقاطعة منتجات وشركات بعينها داعمة للاحتلال، إلى مقاطعة الشركات والماركات التي تحمل هي أو أحد ملاكها جنسية إحدى الدول التي تدعم سلطتها السياسية الاحتلال، وبذلك أصبحت المقاطعة تجاه دول كاملة، وعدد المنتجات المقاطعة كبيرا جدا.
بعد المقاطعة.. ما هي البدائل؟
ثم وقعنا في معضلة ما البدائل المحلية إذا؟ فظهرت بعض المنتجات المحلية ولها مشاكلها من حيث الجودة المنخفضة والسعر المرتفع وقلة الإنتاج والمعروض، ولكن لا أحد يستطيع التعليق والاعتراض، ففورا يتم مهاجمته واتهامه بالتخاذل بل والخيانة والتفاهة، فكيف تهتم بطعام وشراب وهم هناك يرون الويلات؟
المقاطعة بالضرب!
ومن هنا بدأت المقاطعة تتخذ مسارا جديدا، عنيفا وأقرب للتطرف، فاللغة المستخدمة في الدعوة للمقاطعة أصبحت أمر لا نقاش فيه والنقاش معناه خيانة وعنف، حتى أن سيدة نشرت منشورا تروي فيه عن شقيقتها التي هي في مرحلة الطفولة وتفتخر بها لأنها اعتدت بالضرب على صديقتها الطفلة لأنها تشتري منتج مقاطعة.
المقاطعة واجب ديني
حتى أن الأمر وصل لاستخدام الدين، فالبعض استخدم آيات من القرآن الكريم وبعض الأحاديث ومنحها تفسيرا لا مصدر له لإثبات أن المقاطعة واجب ديني، ومن يخالف المقاطعة فهو آثم!!
تختلف التفسيرات وكلها من أشخاص غير متخصصين، ارتفعت وتيرة المزايدة، من مزايدة، عاطفية، إنسانية، قومية وأخيرا دينية.
من المسئول عن تصنيف المنتجات وقائمة المقاطعة؟
ومشكلة أخرى، من يقرر ويصنف المنتجات المقاطعة؟ وعلى أي أساس هذا التصنيف؟ البعض يقاطع من أعلن الدعم فقط، الآخر يقاطع دول كاملة؟ حتى أن الهوس وصل إلى حد تتبع جنسيات ملاك الشركات العالمية لعل وعسى يكون المالك له جد قديم هو نفسه لا يعلم عنه شيئا يحمل جنسية إحدى الدول التي تدعم سلطتها السياسية الاحتلال، فنعاقبه ونقاطع منتجاته.
بل أكثر من ذلك، تحول الأمر إلى فوضى معلوماتية وتشكيك دائم، حتى أن بعض الشركات المحلية المصرية اتهمت بأنها مقاطعة، هكذا أحدهم قرر وضعها في قائمة المقاطعة، وسط شائعات وفوضى معلوماتية قائمة على فوضى مشاعر.
قرار من رواد المقاطعة بدخول الأدوية ضمن القائمة
شملت المقاطعة منتجات الطعام والشراب والمنظفات والتجميل والملابس، ولكن رواد المقاطعة استثنوا الأدوية لأنها ضرورة، علاج لمرضى، ولكن لم يستمر الوضع هكذا وسرعان ما بدأت المطالبة بمقاطعة بعض الأدوية، والأمر هنا أقرب للابتزاز العاطفي، مما قد يدفع مريض للتخلي عن دوائه لأنه سيكون خائن وبائع لدماء الأطفال والأبرياء في فلسطين إذا تناوله.. خرج الأمر من نطاق الطعام والشراب والملابس وأدوات التجميل التي يمكن وصفها بالتفاهة إلى نطاق لا مجال للعبث به، الدواء وصحة وحياة الأشخاص.
هذا الشخص.. مقاطعة
المقاطعة شملت أيضا الأشخاص، فكل من يروج للمنتجات.. هو نفسه مقاطعة، فأي شخصية عامة من فنانين ولاعبي كرة قدم أو مشاهير يقدمون حملات دعائية وإعلانية لتلك المنتجات، يتلقون هجوما كبيرا ودعوات بمقاطعتهم كأشخاص، مما دفع بعضهم للدفاع عن موقفه وأنه ملزم بعقود وشروط جزائية كبيرة، وبذلك تحولت المقاطعة من وسيلة للوعي بالقضية والتعبير عن التضامن معها إلى صورة من صور الإجبار على التعبير والتضامن بتلك الطريقة وفقط، ماذا إذا أردت التعبير بوسيلة مختلفة؟ تحمل رد فعل المقاطعين.
الأهلي مقاطعة!
أن تقاطع منتجا، شخصا وفق موقفه وتوجهه، شيء قد يكون مفهوم، أما مقاطعة مؤسسات جماهيرية بأكملها، معروف على مر التاريخ مواقفها المساندة والداعمة لفلسطين؟ نعم، طالبوا بمقاطعة النادي الأهلي! وكأنه شيء من الممكن مقاطعته! لمجرد أنه مرتبط بعقود رعاية مع شركات ضمن المقاطعة، ثم بدأت رحلة التفتيش في تواريخ العقود هل بدأت قبل أحداث 7 أكتوبر أم بعدها، وحتى لو كانت بعدها فعلى النادي فسخ تلك التعاقدات مهما كانت الخسائر، والجمهور الذي يستمر في حب وتشجيع النادي فهو بالطبع خائن وتافه ولا يناصر القضية، هكذا يرى زعماء المقاطعة، هذا هو حكمهم، لم يكتفوا بمهاجمة بعض المسئولين مثلا وهنا أمر منطقي أن تهاجم الشخص صاحب القرار، لا بل هاجموا النادي وجماهيره التي هي من الأساس تقاطع تلك المنتجات، ولم يستمع لهم أهل فلسطين أنفسهم نظرا لمواقف جماهير الأهلي والنادي نفسه على مر التاريخ معهم.
المقاطعة معركة وهمية لتحقيق انتصارا نفسيا
المقاطعة بدأت مظهرا من مظاهر المقاومة والتعبير عن الغضب والدعم وتضخمت تتغذى على شعور العجز الكامن داخل الأشخاص لتتحول إلى معركة وهمية خلقها اللاوعي الجمعي، ويتشبث بها وبمنحها مساحة وقيمة كبيرة، ليحقق انتصارا من خلالها فيشعر ببعض القوة والتأثير ويهدأ شعور الذنب داخله، فها أنا ذا أفعل شيئا للقضية.
هل المقاطعة مؤثرة؟ بالأرقام بالطبع تأثرت الشركات وخسرت أرباحا كثيرة، وبالمشاعر فهي فعل يقلل من الشعور بالذنب ويبعث رسالة دعم للصامدين في غزة، ولكن أن تتحول إلى أداة للتطرف، التخوين، المزايدة، حتى أن الأمر وصل للمزايدة على أصحاب المصاب أنفسهم، ففي أحد مقاطع الفيديو ظهر الصحفي الفلسطيني الشهير صالح الذي رأي أهوالا وهو يشرب مشروبا غازيا مقاطعة، فتجد تعليقات تطالبه بعدم تناوله أو على الأقل تخبئته أثناء التصوير لأنه مقاطعة!! ما كان ينقص أن يطلع علينا أحد رواد المقاطعة ويطلب منا أن نقاطع صالح.
وهكذا سلسلة من إصدار الأحكام والتفاصيل والبحث والتصنيفات التي لا تنتهي وكل حسب معايير تصنيفه.. فهل أفادت المقاطعة القضية؟ بالطبع نعم على بعض الأصعدة، والسؤال الأهم، هل بدأت المقاطعة تأخذ مساحة من الاهتمام على حساب القضية نفسها لإرضاء أنفسنا؟