"يخبرونك بأن الوقت يمضي بسرعة، وأنه عليك أن تستمتعي به قدر الإمكان، ومن ثم وعند الثالثة صباحاً وفي وسط الحرمان من النوم، وبينما أنت غارقة في الإطعام وتبديل الحفاضات الذي لا ينتهي، وحين يتراءى لك الأمر وكأنه سيستمر إلى الأبد، تتعجبين كيف يمكن للوقت أن يمضي بسرعة عندما تكون ليلة واحدة بهذا الطول".
تلك ريبيكا إينس Rebecca Eanes نقلاً عن "نعمة الأم السعيدة: توقفي عن السعي نحو الكمال واعتنقي الفرح في الحياة اليومية"، الصادر عن دار كلمات سنة 2019، ترجمةً للأصل باللغة الإنجليزية The Gift of a Happy Mother: Letting Go of Perfection and Embracing Everyday Joy.
تواصل ريبيكا: "ومن ثم وفي إحدى الصباحات تستيقظين على خطى طفل دارج يقفز على سريرك وتتعجبين متى أصبح كبيراً هكذا، وتستمرين في ملاحقته طوال اليوم إلى أن تنهكي تماماً... برمشة عين تجدينه في الروضة، ذلك يصفعك بالحقيقة المرة بأن أيام الطفولة ذهبت إلى الأبد، ويبدو الوقت وكأنه يركض بسرعة الآن، تحاولين تقبّل الأمر، وتبذلين قصارى جهدك للاستمتاع به، ولكن لا يمكنك استيعاب ذلك بما يكفي، إنه يكبر بسرعة كبيرة الآن، ويتغير باستمرار، ويخرج عن سيطرتك... تأتي العطلة الصيفية وتذهب، وأنت تدركين أنها معدودة، لذلك تجمعين أكبر قدر ممكن من الذكريات... قبل أن تدركي الأمر ستوصلينه إلى المدرسة الإعدادية... يحمل اليوم الأول من المدرسة الثانوية الترقب للجميع... غرفته مليئة بالحقائب التي حزمتها استعداداً للجامعة... هذه هي الأمومة مرحلة طويلة وقصيرة إلى درجة غير معقولة من الحب ومن التجاوز... أجل إن الوقت يطير، استمتعي به قدر ما تستطيعين، تمهلي والتقطي أنفاسك".
يدور كتاب ريبيكا حول كيف يمكن للأم أن تصبح سعيدة عوضاً عن اهتمامها بأن تكون أمّاً مثالية؛ فالكتاب بذلك لا يساوم بخصوص صفة الإيثار، إذ يبدو واضحاً من الاقتطافات المتناثرة أعلاه أن المؤلفة قد قطعت ضمنيّاً بأن تلك الصفة أكثر التصاقاً بالأم منها بالأب، والغالب أن النساء جميعاً سيوافقنها الرأي؛ أمّا الرجال فلن يجادلوا غالباً في ذلك وإن كانوا سيذهبون على الأرجح إلى إحلال المبالغة/الهوس/الانفعال محلَّ الإيثار، في إشارة إلى تجاوز الأمهات حدود المنطق في رعاية أبنائهن والاهتمام بمستقبلهم.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: حواء وخلافات العائلة.. الفصل السابع والعشرون من كتاب "جينات أنثويّة"
في الفصل العاشر بعنوان "الإرهاق الذهني" تقول المؤلفة: "يخطر لي أحياناً أنه لو كان بإمكاني إمالة رأسي إلى الجانب وهزّه قليلاً حتى يسقط كل شيء يدور داخل عقلي على الأرض، فحينها كانت كل أفكاري ستندفع مسرعة مثل قطيع وحيد القرن في لعبة جومانجي وتروّع المدينة... وفي المقابل، إن فعل زوجي الشيء ذاته، فإنني أتخيّل خيوطاً رفيعة سعيدة من الدخان ستنبعث من رأسه وترتفع إلى السحاب". تستدرك ريبيكا مباشرة: "أنا لا أقول إن رأسه فارغ، لذا لا تفهمي الأمر بالشكل الخاطئ! زوجي ذكي للغاية، ومتفهّم، ورفيق محبّ، وأب مهتم ومتفانٍ يستحق التقدير والإشادة به فعلاً، لكن يبدو لي أنه قادر على إغلاق نافذة افتراضية في ذهنه قبل فتح نافذة جديدة؛ لذلك، فإن أي شيء قد يسقط من دماغه سيكون ما تتضمنه نافذة واحدة فقط. وهذا ضئيل جداً مقارنة بقطيع وحيد القرن الفوضوي لديّ. من ناحية أخرى، يبدو عقلي مشابهاً بشكل ملحوظ لجهاز الكمبيوتر المحمول فهناك عدد لا يحصى من النوافذ المفتوحة، وكلها تعمل في وقت واحد".
بذلك تقدّم المؤلفة مثالاً ربما يفسّر من طرْفٍ خفيٍّ مقدرة الأم (المرأة عموماً) على أن تكون أكثر إيثاراً من الرجل، وهو تفسير شائع على كل حال يدعمه البعض بحجج تزعم الاستناد إلى علم وظائف الأعضاء Physiology. مهما يكن من الأمر، تبدو النساء كما لو كنّ حسمن مسألة الإيثار على صعيد الاهتمام بالأبناء لصالحهن، في حين رضخ الرجال على ذلك الصعيد حتى إذا كانوا – من باب الثأر لكرامتهم - يستخدمون مرادفات أخرى لكلمة الإيثار أقلّ تبجيلاً وأدنى فخامة لوصف استجابات الأمهات تجاه كل ما يخص أبناءهن ممّا قلّ شأنه أو عظم من الأمور.
والحال كتلك، يبدو الأبناء كما لو كانوا يخضعون لأنانيّتين: واحدة من قِبل الآباء المنصرفين بصفة عامة إلى إبداء اهتمام أكبر بشؤونهم الخاصة، وأخرى من قِبل الأمهات المغاليات في الاهتمام بأبنائهن كما لو كانوا ممتلكات تخصّهن يُردن لها أن تبدو أفضل من تلك التي تخص الأمهات الأخريات. ولكن، ألا تبدو أنانية الأمهات نهاية المطاف هي التي تصبّ في صالح الأبناء أكثر من عقلانية وموضوعية الآباء؟
غير أن حواء لا تكتفي في مسألة الإيثار بما يخصّها بوصفها أمّاً، بل تمتدّ بالصفة لتشمل أدوارها الأنثوية كافة؛ ومجدداً لا يجادل آدم هنا كثيراً، متعلّلاً بالسبب نفسه على الأرجح، فهو يرى أن حواء تبالغ وهي تؤدّي كل أدوارها، لذلك فإن ما تقوم به هو اهتمام زائد على الحاجة، أو – بكلمات أكثر توقيراً وتبجيلاً – اهتمام فوق العادة.
ولا يخفى ما في آدم من المكر عندما يشتدّ به الضيق على هذا الصعيد فيلمز حواءه بأن اهتمامها الزائد بكل من حولها يشمل نفسها أيضاً، محاولاً بذلك قلب الطاولة على خصمه الوجودي اللدود الذي يتيه عليه باستمرار؛ ومعلوم أن الاهتمام الزائد حين ينتقل من الآخرين إلى حيث يغدو منصبّاً على الذات تنقلب الصفة رأساً على عقب فيصبح الإيثار محض أنانية.
حواء، كالعادة، أشدّ فطنة إزاء الاستجابة لتلك التهمة؛ فهي لا تنشغل بنفيها عن نفسها قدرَ ما تؤكد لآدم فيما لا يخلو من المكايدة أنها جديرة بأن تصرف لنفسها قدراً لائقاً من الاهتمام، ثم تلومه لأنه لا يفعل الشيء نفسه: يوجّه (في المقابل؟) ذات القدر من الاهتمام نحوها باستمرار.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])