رجل حادّ المزاج، سريع الغضب، عنصري، سليط اللسان، فاحش القول، كثير المشادات في محيط العمل. متفرّد في حرفته لكنه قليل الإنتاج بالنظر إلى متطلّبات أصحاب العمل، يستشيط غضباً إذا لم يكافئه صاحب العمل كما يتوقّع أو لم يستجب لأحد تطلّعاته غير المتناسبة مع مؤهلاته وقدراته؛ عندها يقرّر المغادرة من فوره غير متورّع عن التعريض بصاحب العمل أو ذمّه صراحةً بأقذع الشتائم قاذفاً به إلى قاع الأرض حتى إذا كان قبلها قد أشاد به وأفاض عليه من المديح ما رفعه إلى عنان السماء.
هذه لمحة من سيرة ذاتية لا تحمل لصاحبها محمدة على الصعيدين الشخصي والمهني المتعلق بأخلاقيات العمل تحديداً، لكنها صاحبها على كل حال هو أعظم شعراء العربية تأثيراً على مرّ العصور.
ليس من السهل الاتفاق على كون أيٍّ من الناس طيّباً أو شريراً، فضلاً عن أن الحديث عن درجات الطيبة والشرّ حديث بالغ التعقيد لأن تلك الدرجات عديدة ومتداخلة بما يجعل حصرها وفض الاشتباك بينها من المسائل التي تكاد تكون مستحيلة في معظم الأحيان، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار اختلاف البشر في نظرة كلٍّ منهم إلى الآخر ونسبيّة تقييم الأمور بصفة عامة.
مهما يكن، النجاح في الحياة العملية لا يعتمد على كون المرء طيباً أو شريراً رجوعاً إلى أيٍّ من المقاييس، بل إن النجاح في الحياة الاجتماعية ينطبق عليه الأمر نفسه؛ فاختراق الحياة على الصعيدين العملي والاجتماعي مرتبط بالقدرات وطريقة تقديمها للآخرين وإقناعهم بأهميتها وإمكانية الإفادة منها؛ وفي هذا يرى البعض أن نزعة الشرّ قد تكون أنجع في فتح الأبواب أمام صاحبها كونها تعفيه من كثير من القيود الأخلاقية المكبّلة، وهذا انطباع قد لا يعدم جوانب من الحقيقة، لكنه ليس دقيقاً ولا مطلق الصحة بحال.
هل كان المتنبّي طيّباً أم شريراً رجوعاً إلى الانطباع العام من سيرته وشعره؟ الأرجح أن الإجابات ستتسارع بما يؤكد نزعة الشرّ الكامنة في الشاعر العظيم حتى من قبل أشدّ المعجبين به، فشعبيّة المتنبي الطاغية على مدى تاريخ الشعر العربي لأكثر من ألف عام تعاظمت أساساً لسببين: الأول مهارته الفنية منقطعة النظير، والثاني شخصيته الفريدة التي صنعت سيرة ذاتية درامية طغى عليها الطموح والجموح بما غطّى تقريباً على كل نزعة طيبة/خير فيها، هذا إذا كان الشاعر العظيم قد اكترث ابتداءً لأن يتبدّى في سيرته الذاتية أيٌّ من ملامح الخير والطيبة.
لا يعني ذلك أن المتنبي كان يتعمّد إظهارعنفه وعنفوانه، أو أنه كان يقصد إخفاء لينه وطيبته على قدر ما فيه من هذين الطبعين، فالواضح أن الرجل كان يترك نفسه على سجيّتها لنرى ما رأينا من تجلّيات صفاته التي سمّينا أبرزها أول هذا الحديث.
بالنسبة لأرباب عمله لم تكن طباع الشاعر العظيم خافية، لكن صاحب العمل ينشد لدى موظفه في المقام الأول إنتاجه ولا يُعنى بأخلاقه وطباعه إلّا بقدر ما قد تؤثّر في ذلك الإنتاج. وبالنظر إلى موظّفنا الفريد هذا، فإن الأمر معه كان مختلفاً إلى حدّ بعيد، وإن يكن ذلك الاختلاف يطال العلاقة التي كانت سائدة بصفة عامة بين الشعراء العرب وممدوحيهم في تلك العصور، إذ كانت الخدمات التي يقدّمها الشاعر لصاحب العمل ذات طبيعة مختلفة، وطبيعة الخدمات نفسها تختلف بدورها وفقاً لطبيعة عقد العمل (العرفي): العمل بدوام كامل أو دوام جزئي، أو حتى العمل بالقطعة ولمرة واحدة فقط.
فيما يتعلق بالعمل غير المنتظم (الدوام الجزئي أو العمل بالقطعة) يغدو تحدّي طباع الشاعر أخف وطأة على الممدوح صاحبِ العمل قياساً بما يمكن أن يكون عليه الحال لو أن الشاعر يعمل بدوام كامل؛ والتحدّي في كل الأحوال متبادل، فعلى الشاعر أيضاً أن يعالج طباعه وانفعالاته في حضرة ممدوحه، وعندما تكون الحدة والنزق وجنون العظمة من بعض أبرز سمات الشاعر فإن تحدّي التعامل مع الطباع يبلغ ذروته بالنسبة لكليهما: الشاعر غريب الأطوار وصاحب العمل المتعطّش إلى الثناء، خاصة إذا كانت خدمات الشاعر (قصائده) مّما يستحق الصبر عليه لفرادته، فالشاعر الذي بضاعته اعتيادية - أو حتى جيدة - يمكن الاستغناء عن خدماته دون الحاجة إلى التفكير مرتين وأكثر كما هو الحال مع آخر بضاعته منقطعة النظير كأبي الطيب المتنبي.
عمل شاعرنا العظيم بالقطعة لدى أكثر من ممدوح، وحين عمل بدوام كامل لدى سيف الدول الحمداني ثم كافور الإخشيدي رفع الأول إلى عنان السماء ثم فارقه معاتباً إيّاه عتاباً اشتمل على ما يمكن أن يُقرأ بوصفه تجريحاً لا يليق تجاه صديق عزيز فضلاً عن أمير ذي مكانة رفيعة، كما رفع الثاني أيضاً إلى عنان السماء ثم فارقه وهو يلقي به في قيعان الأرض بهجائيّات لا خلاف حول بلاغتها الرفيعة وفحشها البالغ في الوقت نفسه بصرف البصر عن كونها مستحقة أم لا، والأرجح أنها ليست مستحقة إلا في عرف شاعرنا المجنون بعظمته والمبتلى بنزقه الحادّ عندما لا تُستجاب مطالبه المبالغ فيها، وللدقة فهي مستحقة أيضاً في عرف عشاقه الذين لم يكن يعنيهم من الأمر إلّا شعره العبقري بعيداً عن أية قضايا أخلاقية موازية.
بذلك في الاعتبار، لم يكن المتنبي موظّفاً مثالياً بحال، بل كان موظفاً سيّء الطباع بعيداً تماماً عن توقّع رؤسائه؛ والأرجح أن أصحاب العمل الذين قدّم لهم شاعرنا خدماته – لا سيما أولئك الذين عمل لهم بدوام كامل كسيف الدولة وكافور – كانوا يعلمون ذلك، لكن ما حدا بهم إلى قبول مغامرة توظيفه هو تطلّعهم إلى الخلود في ثنايا أشعاره، وهي مغامرة كلّفت بعضهم أثماناً لم تكن في حسبانهم، أمّا شاعرنا - وحيد الأزمنة العربية جمعاء - فقد كلّفته غرابةُ أطواره وطباعُه الحادّة أثماناً باهظة كان أغلاها نهاية المطاف حياته، إذا صحّت رواية مقتله الشهيرة.