وكعادة يوسف شاهين لابد وأن يأخذك فى حالة ذهنية مختلفة عند مشاهدة أعماله السينمائية، فهو لا يؤمن بالمباشرة الفنية ولا يميل للاستسهال في بلورت رؤياه السينمائية، بل إن العمق من أساسياته السينمائية.
لذلك عندما تناول النقاد فيلم "باب الحديد" تعددت وجهات نظرهم النقدية، فمنهم من يرى أن العمل مداعبة لنظام جمال عبد الناصر، ومنهم من تناوله من منحى الواقعية الاشتراكية وصراعات الطبقات، وفي الحقيقة لا اتفق مع كلا الرؤيتين، فالعمل تناول الأمراض النفسية والاجتماعية للطبقة الكادحة، وبالتالي فهو لم يداعب نظام عبد الناصر الذي انتهج سياسة تمكين هذه الطبقة أيديولوجيا ومنحها مزايا على حساب الطبقات الأخرى في المجتمع، لذا التحليل العميق للفيلم سيكشف أن الفيلم نقدا لاذعاً في الرؤية الإيديولوجية لنظام جمال عبد الناصر، الذي يرى أن العدالة الإجتماعية تقوم على إبادة الطبقة البورجوازية وتمكين الطبقة الكادحة.
أما الرؤية ألنقدية التي ترى في الفيلم تجسيد للصراع الطبقي وانحيازه لطبقة العمال لا اتفق معها هى الأخرى، فالعمل يميل إلى التفلسف الوجودي أكثر من التفلسف الاشتراكي، فالفيلم أظهر معاناة الشخصيات الدرامية في البحث عن كينونتها في مجتمع يسحق الإنسانية تحت عجلات قطارات الفقر، والاحتياج، وفقدان الشعور بالأمان، أثناء القفز من قطار لآخر من أجل لقمة العيش، ومطاردة أصحاب الكافتيريات للباعة الجائلين.
في الحقيقة الفيلم قدم رؤية عادلة للتفاعل بين الطبقات الاجتماعية، حيث أشار إلى أن الخير والشر موجود في جميع الطبقات، وإن الشر ليس سمة تخص البورجوازية، بدليل وجود عم مدبولى صاحب الكشك والذى يرمز للبورجوازي - أي صاحب راس المال - الطيب الذي يساند كل فقير محتاج، فهو بمثابة الأب لكل عمال محطة السكة الحديد، وأن الخير ليس سمة تختص بها البوليتاريا – أى العمال الكادحين - فهناك شخصية أبو جابر رئيس العمال الفاسد فهو لا يسمح لأى عامل بالعمل إلا بعد دفع رشوة له أو بمعنى أدق إتاوة مثلما كان الحال فى زمن الفتونة.
الفيلم فعلياً يركز على التحليل النفسي لشخصية قناوي، وهى الشخصية المحورية للفيلم فقناوي شخص فقير أعرج، وجده عم مدبولى يبكي بلا مأوى ساعده عم مدبولي في العمل بتوزيع الجرائد وتوفير كشك خشبي للسكن فيه، ورغم عطف عم مدبولى على قناوي إلا أن ذلك لم يحميه من المرض النفسي والشعور بالنقص، نتيجة لاستهزاء بعض عمال السكة الحديد من عرجه، وقد وظف المخرج يوسف شاهين الصورة السينمائية لاستعراض الأعراض المرضية الظاهرية لاضطراب الإباحية الجنسية، ورغم صعوبة تقديم هذا الاضطراب درامياً لأنه بالضرورة سيخدش القيم الاخلاقية للمجتمع المصري، إلا أن ذكاء شاهين السينمائي وعبقريته الاخراجية ظهرت في تقديم هذا الاضطراب بما لا يخدش حياء المتلقي، وبصورة علمية سليمة بعيداً عن فانتازيا السينما.
استعرض الفيلم كذلك تدهورت الحالة المرضية لقناوي وصولاً إلى مرض الضلالات مصحوباً بالاكتئاب إثر فشله في الزواج بهنومة، واكتشافه ارتباطها بابو سريع الذي يعمل شيال بالسكة الحديد، ولم يكن هذا الجزء الأخير من الفيلم مجرد استعراض لأحداث جريمة القتل، بل استعراض لأعراض الضلالات كمرض عقلي بالصورة، من حيث التوهم والهلاوس دون تدهور في القدرات العقلية والشخصية، واحتفاظ قناوي بقدر من الذكاء قد ظهرت هذه السمات خلال تخطيطه بدقة للجريمة، من شراء السلاح المستخدم في الجريمة السكين والصندوق المستخدم فى إخفاء الجثة، ووضع الصندوق في القطار لإبعاده عن القاهرة لمحافظة أخرى، والاتصال بالشرطة لتوجيه الاتهام إلى ابو سريع للانتقام منه والإفلات من العقاب.
الفيلم يعد من الأعمال السيكودراما المقدمة باحترافية عالية المستوى، مع محاولات التدقيق العلمي في الأمرض النفسية والعقلية والابتعاد عن التحريف والتزييف كضرورات للحالة السينمائية الدرامية التجارية، مما يجعله يستحق أن يكون من أيقونات السينما المصرية وعمل يستحق الدراسة النقدية متعددة الرؤى.