بواقعية مدثرة بثوب الخيال، وبلغة عذبة لم نعتادها في الرواية المصرية الحديثة، وبرحلة توغل فيها الكاتب أحمد فريد المرسي غرب القارة السمراء راوغ من خلالها القراء بعمله الروائي الأول (منروفيا) الصادر عن مؤسسة بيت الحكمة.
تدور الرواية حول شاب مصري ينتقل للعمل في شركة أخشاب صينية بالعاصمة الليبرية منروفيا، فيجد نفسه ممزقًا ما بين جنون الحرب الأهلية هناك، وعبثية الحب الضائع، ما بين حروب دموية وحروب نفسية.
" أشقى ما في الوحدة أن يفرضها عليك من تحب"
لعبة كولاچية
شُكل الغلاف باعتباره عتبة من عتبات النص القرائية بطريقة كولاچية إذ تضمن خريطة لمنروفيا تتشبع بالدماء، ومرأة منروفيّة، وسلاح بدائي مقارنة بما يستخدم في الحروب الدولية للكناية على أنها حروب أهلية لا يمكن التنبؤ بتباعاتها، وبتواشج فني آخذ لعناصر الغلاف تم دفع القارىء إلى التقين بأن العمل توثيقيًّا للحرب الأهلية في ليبيريا رغم أنه يتجاوز التوثيق، فالحديث عن الحرب لم يكن إلا في الرحلة الثالثة والأخيرة من العمل بإيقاع متسارع على المستوى السردي واللغوي ليتلائم وطبيعة الحرب، فضلًا عن أنه تناول آثار الحرب الأهلية من عين عربية تمثلت في أحمد وحيد ممثل السفارة المصرية هناك، والمصريين الذين تحصنوا بالسفارة، أو حتى من منظور البرجي اللبناني، وعمر المالي، وليس من منظور الليبريين أنفسهم باعتبارهم أول من يتجرعون ويلات الحرب، باستثناء ما قاله زونجا على استحياء وبنبرة زاهد ليس له في الحياة ما يرثيه؛ ليطمئن به البطل أن البقاء الزاهد الأضعف كونه ليس طرفًا في الصراع، أو حتى ما قالته رحمة له.
وقد عزز العنوان ذلك الاعتقاد بأنها سردية مدن، إذ جاء العمل الروائي حاملًا لاسم العاصمة الليبرية منروفيا باعتبارها بؤرة مركزية للأحداث، ولكن تلك اللعبة الأولى التي سحب بها الكاتب القارىء بذكاء نحو عمله الأول، لا سيما وأننا كقراء لا نعرف الكثير عن القارة السمراء، ولا نعرف عن ليبيريا سوى أنها بلد چورچ وايا.
أما عن اللعبة الثانية فكانت من خلال التواشج بين الجغرافيا والديموجرافيا لفهم طبيعة المكان وتأثيره على سلوكيات السكان هناك، ففي بدايات القرن التاسع عشر بدأت عملية إعادة العبيد المحررين من الولايات المتحدة الأمريكية لاستعمار منطقة في غرب إفريقيا بدلًا من إعادتهم إلى مواطنهم الأصلية، بمساعدة منظمة جمعية الاستعمار الأمريكية التي روجت إلى أن العبيد السابقين سيحصلون على المزيد من الحرية والمساواة في إفريقيا، هذا بخصوص التواشج المضمر، أما التواشج الأكثر بروزًا فكان من خلال التأكيد على أنها بلد المتناقضات، والمدينة التي أنهكتها الحرب وجردتها من كل شيء إلا الخوف.
بعين تاجر وزائر ودبلوماسي
استكمالًا للعبة السردية التي بدأها أحمد فريد مع القارىء والتي لم يجعل فيها المكان بطلًا كما في عنوان روايته، تعدد ت زوايا الرؤية للمكان ذاته من خلال شخوص العمل، فضلًا عن زاوية الراوي الحكيم داخل السرد، فمنروفيا في عين البطل غير منروفيا في عين أبو عبد الله البرجي، وغير منروفيا في عين الدبلوماسي وحيد، فهناك من يراها حبيبة، و هناك من يراها منجم، وهناك من يراها بؤرة عمل مؤقتة، كل حسب مراده وأغراضه.
ما بين النبش والموازنة
لم يكن العمل رغم تفاصيله الدقيقة التي نقلها الكاتب بلغة تكاد تكون مرئية ومجسدة عبر الوصف، واستثارة الحواس كما ذكرنا سابقًا سردية مدن، وإنما رحلة للنبش داخل الذات الهشة للوقوف على أسباب هشاشتها وخوائها الداخلي.
" وضعته أمام مرآة نفسه ليطالع هشاشة تكوينه"
فالحرب ليست السبب المباشر وراء هشاشته، ولكنها جعلت تلك الهشاشة تطفو وتصبح جلية أمام الآخرين، فرحمة المنروفية التي نشأت وسط الحروب ورأت وجهها القبيح كانت أكثر تماسكًا وتفاؤلًا، الليبريون أنفسهم كذلك.
«فلسفة الحياة والموت تحتم عليهم أن يروا الإنسان أعظم من جسد فان، وأهون من وريقة تنزعها الريح عن غصنها لتسقط فتندثر».
ولكي يدرك حقيقة الأشياء كان من الضروري أن يلجأ البطل لا إراديًّا إلى الموازنة بين رحمة ومنى، فرحمة المنروفية التي عاشت على كف المحيط تهب له الحياة، ومنى الإسكندارنية التي نشأت على ثغور المتوسط تطلبها، وقد تجلى ذلك من خلال إقناعه لنفسه بأن بعضًا من ثمن شبكة منى ستقبل به رحمة، فيؤكد الكاتب بطريقة غير مباشرة ليس على الفارق الأنثوي بين نساء البطل ولكن على الفارق الاجتماعي والاقتصادي والأيدلوچي بين شمال إفريقيا وغربها، بين ضيق المتوسط وأفلاطونية الأطلنطي، ورغم سميائية الأسماء للحبيبتين منى ورحمة لم ينجح في فك شفيراته، فكان عليه أن يدرك أن منى ما هي إلا أمنية مستحيلة، لكنه ما زال ينبش دون يقين رغم وضوح الإجابة بأن النور لا ينبع إلا من الداخل، وأن الرحمة هبة قد لا تدوم.
"هل رحمة مجرد واحة لمسافر في قفر ترحال، أم أن منى هي من كانت قشة لغريق.."
أما رحمة فقد كان منطقها يتسق مع منطق الراوي الحكيم في العمل، تعرف من تكون، وماذا تريد، بالأحرى تجيد التكيف، وتعرف كيف تتعامل مع الألم، فعلى لسان الراوي شغفها بالغد الزاهر ينقلها خارج إطار عوز اليوم المخزي، وإن كنا لا نتفق مع منطق رحمة في التطلع إلى المستقبل بعين الخيال، ولا البطل بعين الماضي دون الالتفات إلى الحاضر، فكلاهما تعامل مع الأمس والغد أما اليوم فقد تلاشى، فالماضي ما هو إلا ذكرى تنتخب، أما المستقبل فهو مجرد فرضية تحتمل، وفقًا للراوي.
"اليوم أهم من الغد، وحلول الليل لا يعني بالضرورة مقدم الصباح"، ولأنها سردية المتناقضات وصراعات الإقدام والإحجام باعتبارها أكثر الصراعات شراسة فكان للطبيب شاهين نصيبًا من الصراع بين ما بين ما يدعيه وما يشتهيه، وبين ما يلفظه البرجي وما يسكنه، وما يحادث به البطل نفسه وما يسلكه، بين ما تحمله نبيلة من سميائية في اسمها وما يظنه شاهين فيها، حتى وحيد الشخصية الأكثر عقلانية ومنطقية بينهم كان له من المتناقضات نصيب.
وعن جماليات النص فقد تجلت بعضها في شخصية البطل، فتمكن الكاتب من إبراز هشاشة الشخصية وفوضويتها عبر عدة تقنيات بدأت من تعمد عدم ذكر اسم البطل مع الاكتفاء بوصفه بالوسامة بعين رحمة، وأسهم ذلك في عدم حسره في تكوين جسدي متخيل أو بملامح بعينها ليوجه القارىء إلى التركيز على تكوين الشخصية الداخلي بخلفيتها الاجتماعية والأيدولوچية، وبالإضافة إلى عجزه دائمًا عن الأخذ بزمام المبادأة، فضلًا عن شخصيته الاعتمادية، وتقمصه الدائم لدور الضحية، وسلوكه الانسحابي.
«قرر الانسحاب من ألم قلبه في ميونخ إلى جحيم نفسه في منروفيا» ففي علاقاته بمنى ورحمة والطبيبة الرومانية مارسيلا لم يكن سوى استجابة لمثير.
حتى في لحظة إنهاء علاقاته بمنى رغم رغبته في إنهاء العلاقة إلا أنه انتظر أن يأتي القرار منها، وحين قرر أن يثور وحمل بداخله مشاعر الغضب تجاه البرجي حين ظن أنه السبب وراء اختفاء رحمة لم يجرؤ على مواجهته وسؤاله، والمرة الوحيدة التي استطاع أن يأخذ بها قرارًا كانت على استحياء بعد لحظات ضعف حميمية مع مارسيلا، بلغة جسد لا إرادية هي الأفضل على الإطلاق، حين أفاق من نشوته واضعًا ساقًا فوق ساق لتفهم مارسيلا من خلال تلك الحركة عن رفضه لاستكمال العلاقة، وهي نقطة تحسب للكاتب في تفاصيلها والتعبير عنها بلغة الجسد.
«لكنه حاول تفكيك عالم يرفضه لبناء عالم يحلم به».
ورغم الإسهاب أحيانًا في الوصف إلا أنه لم يكن مبتذلًا، وعن المفردات فهناك مفردة وردت على لسان الراوي باللهجة الشامية بالرغم أن الراوي استخدم لغة محايدة لا تنحاز للهجة دون غيرها " قبل ضبها في الحقيبة.." فضلًا عن المفردة " حلة" و "اكتراه" «الخاتم الذي اكتراه لها» وهي مفردات رغم جودة صيغتها لم تعد دارجة في قاموسنا المعاصر.
تميز العمل بتعدد البناء اللغوي، فكل رحلة من الرحلات الثلاثة تضمنت مستوى لغوي ثري يعج بالاستعارات والتشبيهات ومختلف عن غيره، كما أن مشاركة الشخوص من حين لآخر في السرد بلهجة مغايرة للغة الراوي الحكيم والأساسي في العمل أسهمت في دفع الملل عن النص.
العمل في مجمله جرأة تذكرنا بأن يد السيد الأبيض ما زالت تعبث في الواقع الاجتماعي والاقتصادي للقارة السمراء أيضًا، وما زالت كل روح طيبة تجاهد واقع خبيث، وأن الحروب النفسية أكثر وحشية من الحروب الدموية.
نرشح لك: كتاب "ميديولوجيا الصحافة السعودية.. قراءة في المسيرة والتحولات".. تحليل لـ صحف المملكة