كنت أفتقد هذا الشعور، شعور الامتلاء بالمتعة السينمائية والسمو والتحليق، تلك الأضواء الخافتة وشعاع شاشة العرض الذي يتسرب عبر الأوردة قبل أن يتصل بالشاشة البيضاء، أتسول الأفلام الجديدة، ألهث خلف أي أفيش سينمائي حتى لو اعتلته بطة صفراء.. علني أظفر بهذا الشعور، وما بين دخولي ذلك الممر المقدس المؤدي لقدس أقداس شغفي.. قاعة السينما وبين إحباطي وقت الخروج دونما امتلاء تكمن معاناتي كشخص بيحب السيما!
إلى أن ساقني الحظ السعيد لأن أدخل فيلم أهل الكهف، وياله من حظ؛ لا أنكر أنني دخلت الفيلم مدجج بأسلحة الانتقاد والمقارنة والتقييم التاريخي ومراجعة الملابس مع الأحداث التاريخية مع روح العصر، كنت مُحملاً بكل ما شاهدته قبل سنوات متصلة وأصابني بالإحباط، ومدججاً بأسلحة التاريخ للحكم على عمل مكتوب بروح التاريخ، ولكن ما رأيته كان مذهلاً بحق.. النص محكم، لقطات التاريخ حقيقية تنم أن كاتب السيناريو الذي تعامل بخفة واقتدار مع النص الأصلي اجتهد على النص دون أن يهبط من علياء خياله السينمائي، أعرف كيف ظهر البابا متجهم أمام الإمبراطور في بعض الفترات وكأنه صاحب السيادة لأنني كمؤرخ أعلم تمام العلم تاريخ الصراع بين الإمبراطورية والبابوية وإرهاصات حدوثه، كيف ظهرت قبائل الجرمان وكيف كانت أسلحتهم وملابسهم وحتى شكل السيف المُستخدم نُقل كما هو من تصاوير الرومان ومخطوطاتهم القديمة، وكأن عمرو عرفة وأيمن بهجت قمر قد أطلعا على حوليات كتب تاريخ الإمبراطورية الرومانية المقدسة، المخرج القدير عمرو عرفة الذي استطاع إدارة العمل باقتدار وكيف صنع المخرج مع المؤلف حالة التناغم البديع والمقاربة العبقرية بين قصة أهل الكهف وبين الرؤية السينمائية وبين الحبكة وبين الرسائل بالغة الأهمية التي تناقش قضايا الدين والسياسة عبر العصور.
خالد النبوي بعبقريته الهوليودية، و"أحمد عيد" الذي أحمد الله دائماً أن يظهر أمام الكاميرا فهو الروح الحقيقية لكل عمل، محمد فراج الذي قدم تحدي سينمائي مدهش، غادة عادل التي لا زلت وسأستمر مفتوناً بها كنجمة تملاً الشاشة حضوراً وخفة ورشاقة وأداء سهل ممتنع، ريم مصطفى التي تثبت دائماً أنها ممثلة من العيار الثقيل تقدم تمثيل وتشخيص وأداء سينمائي مرموق.
ومحمد ممدوح.. القائد بولا العظيم، نعم محمد ممدوح، أتسائل يوماً بعد يوم عن مدى عبقرية هذا الرجل، خطف قلبي وخطف الشاشة من مشهد ظهوره الأول، تراه كأبطال الرومان القدامى، من الوهلة الأولى تتساءل هل المواصفات الجسدية لمحمد ممدوح هي مواصفات قائد جيوش رومانية، لا يدعك محمد ممدوح تفكر كثيراً بهذه المقاربات يظهر بسيفه الروماني المصقول ليحسم المعركة الحربية في بداية الفيلم والمعركة الفنية على مدار الفيلم، تتساءل كمشاهد محب للسينما ما هذه العبقرية وهذا الحضور، كيف كان يتحول من ملمح لملمح ومن أداء لأداء ومن انفعال لانفعال، يقدم لك نفسه كبطل روماني تصدقه وتنبهر، زوج رومانسي تصدقه وتفتن، أب مكلوم تصدقه وتنفطر، قديس صاحب معجزات تصدقه وتؤمن، شهيد ومُضحي تُصدقه وتنهمر عيناك بكاءاً معه.
إنه محمد ممدوح، كنز من كنوز مصر السينمائية ربما أجد تشابه بين ما يقوم به وبين ما وصف به يوسف شاهين محمود المليجي ذات مرة عندما قال "ده ده.. يا نهار أبيض الراجل ده.. مش عبقري ولا حاجة بس حطه قدام الكاميرا".. وأزيد وصفاً لمحمد ممدوح أنه عبقري حتى النخاع، أيقونة سينمائية مصرية معتبرة، انتهت ساعات الفيلم لأجدني أعود مرة أخرى لشبقي القديم، خرجت من الأبواب والأضواء على جانبي الطريق لبهو السينما وكأنني فاتح روماني تلبستني روح ما رأيته وما شاهدته، فعاد ذلك الشعور القديم الذي افتقدته.. عاد مع أهل الكهف وأبطاله.. عاد مع محمد ممدوح وتعابير وجهه وتوظيفه حتى أدق التفاصيل. حتى قطرات عرقه، حتى قصة شعره، صدقه في التعبير، صدقه مع فنه هذا الصدق الذي لا يأتي عبثاً فهو صدق المجتهد الدؤوب الفنان. ولأني بحب السيما فقد عاد لي شغفي القديم وأيامي الخوالي، لذا ومن كل قلبي شكراً أهل الكهف.. شكراً محمد ممدوح.