هل للتشبّث بالحياة علاقة مباشرة بفطرة الخوف/الشجاعة لدى أيِّ من الناس؟ الإجابة التي تتواثب في الخاطر غالباً هي "نعم" كبيرة تغليباً للنظرة الرائجة للخوّاف على أنه أكثر تمسّكاً بالحياة والشجاع على أنه في حالة تأهّب دائم لإلقاء نفسه إلى التهلكة.
الأرجح أن "لا" هي الأكثر دقة، فالخوف في المواقف التي تجابه الواحد على صُعد الحياة وتحدّياتها المختلفة لا يشمل بالضرورة الخوف المباشر من الموت بذات الدرجة، كما إن الخوف لدى الشخص نفسه لا يكون متّسقاً في كل المواقف. الأمر ذاته ينطبق على الشجاعة؛ فإذا اشتهر أحدهم بالشجاعة فالأغلب أن ذلك يتعلّق بشجاعة مجابهة المواقف المادية، وهو ما لا يمتدّ بالضرورة إلى المواقف المعنوية، أي السير عكس اتجاه التيار عاطفياً أو فكرياً، وهو ما لخّصه أمير الشعراء شوقي في الأبيات التالية مستلهماً موقف سقراط الذي تجرّع (قَبَّل) السمَّ دفاعاً عن وجهة نظر فكرية/فلسفية كان بإمكانه التنازل عنها (من باب المداراة) فداءً لنفسه:
سُقراطُ أَعطى الكَأسَ وَهيَ مَنِيَّةٌ * شَفَتَي مُحِبٍّ يَشتَهي التَقبيلا
عَرَضوا الحَياةَ عَلَيهِ وَهيَ غَباوَةٌ * فَأَبى وَآثَرَ أَن يَموتَ نَبيلا
إِنَّ الشَجاعَةَ في القُلوبِ كَثيرَةٌ * وَوَجَدتُ شُجعانَ العُقولِ قَليلا
إذا كان هذا عن الإنسان بصفة عامة، فماذا عن الفرق بين المرأة والرجل في هذا السياق؟ هنا أيضاً تتقافز إجابة أخرى في الخاطر مفادها أن الرجل أشجع من المرأة وأن الأخيرة من ثمّ أكثر تشبّثاً بالحياة؛ وكشأننا مع الإجابات المتواثبة على تلك الشاكلة نقف وقفة تحفّظ وربما اعتراض، ليس من أجل إثبات العكس بل لتأكيد أنه لا قاعدة عامة يمكن إطلاقها بضمير مستريح على هذا الصعيد، فالعكس كثيراً ما يكون صحيحاً بالفعل، ولكن ليس بما يؤسس لقاعدة ثابتة بقدر ما ينفي وهْمَ القاعدة المفترضة ابتداءً بلا داعم سوى الانطباعات الصرفة.
يرى الرجالُ النساءَ أدنى شجاعة منهم بما لا يحتمل الجدال ولا يرون أنفسهم بحاجة إلى دليل، فالنساء أنفسهنّ لا يتورّعن عن التصريح بخوفهن وطلب الحماية من الرجال على اعتبار أن ذلك هو أحد أدوارهم الجوهرية في الحياة. في الوقت نفسه، تواصل النساء غمزهن ولمزهن من وراء ستار (وجهاراً إذا لزم الأمر) حول جزع الرجال من أمور صغيرة كتهافتهم في حضرة نزلة برد خفيفة أو الهلع من وخزة إبرة لتعاطي لقاح لدواعٍ طبية طارئة مثالاً على تجارب ألم عابرة قياساً بآلام الحمل والمخاض والولادة التي تتيه بها بنات حواء على بني آدم في معرض الحديث عن قوة التحمّل والصبر.
بعيداً عن الاتهامات الاستباقية والأخرى المضادة المتبادَلة بين النساء والرجال، نرى فيما سبق أن الخوف والشجاعة مسألتان نسبيّتان إلى أقصى الحدود حتى إذا كان موضع المقارنة في تبايُن أشهر زوجين متناقضَين في الوجود: آدم وحواء.
في ملف خاص بعنوان "رحلة بين عوالم الألم والأمل"، ضمن عدد يناير 2020 من مجلة National Geographic (ناشيونال جيوغرافيك العربية)، يكتب يوديجيت باتاشارجي Yudhijit Bhattacharjee: "ولعل أغرب ما تكشّف من عمل وولف (كليفورد وولف عالم الأحياء العصبية لدى مستشفى الأطفال في بوسطن) ومن تلاه من الباحثين هو أن الألم قد ينشأ حتى في غياب الإصابة؛ وشكَّل هذا تحدّياً لرأي كان سائداً لدى بعض الأطباء، مفاده أن مرضى يشكون ألماً غير قابل للتفسير من الناحية الطبية، إنما كانوا على الأرجح يكذبون لسبب أو لآخر؛ للحصول على مسكنات ألم لا حاجة لهم بها، أو لاستدرار العطف".
مع كشوفات علمية من هذا القبيل تتّسع النسبيّة لاستيعاب كل الاحتمالات تقريباً حتى ما كان متناقضاً منها، وذلك بما يجعل البتّ في مسألة أيهما أكثر احتمالاً للألم (الرجل أم المرأة) من الصعوبة بمكان، خاصة في ضوء ما أوردناه عن اختلاف مواضيع الألم ذاته وتباينها العريض من حيث طبيعة كلٍّ منها على المستويين المادي والمعنوي، بل داخل كل مستوى بصورة موازية.
ولكن، إذا تمّ البتّ (على سبيل الافتراض الجدلي) بأن أحد الجنسين أشدّ قدرة على احتمال الألم بصفة عامة فهل يعني ذلك أنه الأشجع عموماً بالضرورة؟ الأهم، وبافتراض جدلي آخر مفاده الاتفاق على أن أحد الجنسين هو الأشدّ قدرة على تحمّل الألم والأشجع في الوقت نفسه بصفة عامة، فهل يعني هذا بالضرورة أن ذلك الجنس (الخارق) لا يكترث للتمسّك بالحياة وأن الجنس الآخر هو الأكثر تشبّثاً بها؟ في الواقع يصعب القطع بإجابة حاسمة في هذا السياق مهما يكن عدد الافتراضات الجدلية التي نأخذها في الاعتبار، فالتشبّث بالحياة مسألة لا ترتبط بالجزع من الألم/الخوف وقوة التحمّل/الشجاعة فحسب بل بعوامل/مؤثرات/سمات أخرى من قبيل الرغبة في/النزعة الفطرية إلى الاستمتاع بالحياة.
مهما نجتهد في سبر دواعي التشبّث بالحياة لدى الإنسان يظل التحدّي قائماً بخصوص المقارنة بين الجنسين بغرض المفاضلة على هذا الصعيد؛ حتى دراسات المعمّرين في مختلف بقاع الأرض من الصعب أن تفصح عن إجابة حاسمة، فتلك الدراسات لم تفلح ابتداءً في بيان أسباب العمر الطويل بأبعد من قراءة أنماط حياة أولئك المعمّرين والدوران في فلكها، وهي أنماط عيش متباينة بتباين المناطق التي تعيش فيها كل مجموعة من المعمّرين. في العدد نفسه من مجلة National Geographic (ناشيونال جيوغرافيك العربية)، وضمن ملف/تحقيق بعنوان "غذاء لعمر مديد" يرِد ما يلي: "مَرَّ أكثر من 14 عاماً مذ كتب دان بيتنر على صفحات مجلة ناشيونال جيوغرافيك العالمية أول تحقيق له عن أطول الناس عمراً في العالم. وما زال حتى اليوم يكتشف أسرار أولئك المعمرين في أماكن يسمّيها المناطق الزرقاء؛ وقد عاد مؤخراً إلى أربعة منها لمعرفة مزيد من الأطعمة التي تُسهم في ظاهرة إطالة العمر المدهشة هاته؛ حيث جمع وصفات غذائية أثبتت جدارتها عبر الزمن، وبحث في السبب الذي يجعل من بعض الأطعمة عوامل مساعدة على عيش حياة مديدة".
بعيداً عن أسرار ثقافات الشعوب الكامنة في موائدها وطرائق إعداد أطباقها، وحتى بمحاولة استهداف إجابة مباشرة على سؤال الأطول عمراً بين الجنسين من خلال الإحصائيات الرسمية على أي نطاق، لا يزال الجواب الشافي الذي نطمح إليه قصيّ المنال، فأساليب العيش وثقافات الشعوب قد تجعل أحد الجنسين أسرع وأكثر عرضة للهلاك من الآخر، وأشهر المؤثرات على هذا الصعيد بصفة عامة الوظائف بالغة الخطورة والحروب مما يؤثّر على متوسط أعمار الرجال تحديداً، فضلاً عن أسباب أخرى أكثر تفصيلاً وخصوصية من قبيل المؤثرات الصحية في مناطق العالم الأشد فاقةً مما ينطبق على النساء تحديداً كتدنّي/انعدام الرعاية الصحية المتعلقة بالحمل والتوليد.
مَن الأشد هلعاً مِن الألم؟ مَن الأشجع؟ مَن الأكثر تشبّثاً بالحياة؟ أسئلة مثيرة في سياق المكايدة الأزلية بين الجنسين من الصعب الزعم بأن ثمة إجابة علمية/منطقية قاطعة على أيٍّ منها؛ فالإجابة على تلك الأسئلة – باطّراح انطباعاتنا المسبّقة وأدوارنا التي يمليها المجتمع - تبدو مرتبطة بطبيعة كل فرد على حدة أكثر من ارتباطها بكون ذلك الفرد رجلاً أو امرأة.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])