كيف للعالم أن يبدو من دون نساء؟ سؤال لا تختلف إجابته على الأرجح عن السؤال: كيف للعالم أن يبدو من دون رجال؟ فبالنسبة للحالمين – أو على الأقل المتصالحين مع ذواتهم وذوات قُرَنائهم من الجنس الآخر – سيكون تخيّل الأمر صادماً كون الحياة في نظر أولئك (وباختصار عملي شديد) ستغدو ناقصة في تلك الحال بنسبة خمسين في المائة وبحاجة إلى نصف آخر يكملها. أمّا بالنسبة للساخطين (على الجنس الآخر بصفة خاصة) فسيبادر كل طرف من الجنسين إلى التهليل كون ذلك خياراً مثالياً لا يعيبه سوى أنه على سبيل الافتراض الجدلي؛ لكن الفرق بين آدم وحواء الساخطَين هو أن الأخيرة تعرف عميقاً – حتى في غمرة سخطها على الرجل – أن الحياة بحاجة إلى الجنسين معاً، إن لم يكن لأن ذلك أفضل فعلى الأقل لأنه ضرورة، أمّا آدم الساذج فكثيراً ما يزيّن له غرورُه أنّ باستطاعته أنْ يدير دفّة الحياة في أيّ محيط بمفرده.
ولكن الفكرة ليست خيالية تماماً، فعلى الأقل توجد بالفعل محيطات اجتماعية وعملية منغلقة تماماً على كلّ جنس على حدة، ما يصلح للنظر في الإجابة على السؤال: كيف يتسنّى للنساء أو الرجال أن يتصّرفوا لو "انفرد" أيٌّ منهم بملعب الحياة على هذا الصعيد أو ذاك؟
لأنّ حواء كما أشرنا تدرك عميقاً، وفي ثقة، حاجتها إلى آدم ولا تصارحه بنقيض ذلك إلا على سبيل المكايدة، ولأن آدم قد استبدّ – تماماً أو إلى حد بعيد - على مدى التاريخ بكثير من ميادين الحياة، فإن التحدّي في النظر إلى تجربة انفراد أحد الجنسين بأي محيط (لا سيما على النطاق العملي) إنّما هو تحدٍّ يستفزّ آدمَ أكثر مما يزعج حواء.
يميل الرجال بصفة عامة إلى النظر للنساء في العمل على أنهنّ قليلات الإنتاج وانصرافيّات وربما مزعجات؛ واللافت للانتباه أن غير قليل من النساء يصادق على هذه الرؤية بدرجات متفاوتة قد تفوق الرجال أحياناً. لكن النظر إلى أي محيط عملي حِكْر للنساء، ولنأخذ مدرسة متوسطة أو ثانوية للبنات على سبيل المثال، يبيّن بوضوح أن النساء يستطعن تدبّر شؤونهن العملية بمفردهن دون وقوع معارك دموية طاحنة كما يتخيّل الرجال غالباً؛ بل إن الحياة العملية تمضي في محيط العمل النسائي الصرف بسلاسة، وبطبيعة الحال مع وجود مشاكل، لكنها في الغالب ممّا هو على شاكلة تلك الموجودة في أيّ محيط عملي للرجال، مع اختلافات طفيفة في نوع المشكلات وأنماط تكرارها رجوعاً إلى طبائع كلا الجنسين.
في "تمهيد" كتابها "لسنَ جميعاً ملائكة" تقول سيلفي تيننباوم Sylvie Tenenbaum: "نشرتْ كلّ من الأكاديميات الفرنسية الثلاث للطب والعلوم والتكنولوجيا تقريراً نقرأ فيه بوضوح تامّ أنّ الدراسات على تركيبة الدماغ وطريقة عمله، وتأثيرات الهرمونات، وتطوّر الجنس البشري، لا تُظهر فروقاً مهمّة بين الجنسين لناحية الكفاءات المعرفية. من الطبيعي لهذا السبب أن نناضل أكثر لتحقيق المساواة بين النساء والرجال. وهذا لا يبرّر أن نبقى مغمضي الأعين. فحتى إن كان معظم الأفعال العنيفة (بشتى أنواعها) من صنع الرجال، فمن غير العادل الاستمرار في تجاهل ممارسة النساء أيضاً لها، وإن لم يقرّ أحد بذلك".
ليست الفقرة الأخيرة فقط من هذا المقتطف ما يبدو جاذباً على صعيد مجابهة النظرة النمطية للجنسين، لا سيما ما يخصّ المرأة؛ فكتاب سيلفي تيننباوم برمّته يبدو جريئاً على هذا الصعيد خاصة بالنظر إلى أنّ مؤلفته قد أصدرت قبله كتاباً عن تاريخ النسوية، تقول سيلفي: "قد يَعْجب البعض لتأليفي كتاباً عن التصرّفات السامة لبعض النساء بعد ذاك الذي أصدرتُه عن تاريخ النسوية (والنسوية بالتأكيد ليست مرادفاً لكره الرجل) والضرورة المطلقة لمواصلة هذه المعركة، فهي معركة بكل ما للكلمة من معنى. إنه كتاب يهمّني كثيراً، لأن الذاكرة البشرية قصيرة". في الواقع الذاكرة البشرية ليست قصيرة فحسب، بل مضطربة أيضاً، والأرجح أن العلّة الكامنة في اضطرابها/تشوُّشها أفدح من تلك الكامنة في قِصَرها.
الأهم، على كل حال، مما يعنينا من كلمات سيلفي تيننباوم في تمهيدها للكتاب هو إشارتها إلى ما خلَصَتْ إليه أكاديميات فرنسا المرموقات الثلاث في ما يتعلّق بعدم وجود فروق مهمّة بين الجنسين لناحية الكفاءات المعرفية. تلك لا ريب خلاصة قيّمة إنْ صدقت، فتجاربنا مع الأبحاث العلمية – بعيداً عن أية شبهات حول توجّهاتها – أنها متجددة/متغيرة بما قد يصل حدّ التناقض. لذلك أقول إنه حتى إذا كانت ثمة فروق مهمة بين الجنسين لصالح القدرات المعرفية فإن ذلك لا ينقص من قيمة المرأة، فحواء كما رأينا في أكثر من سياق مضى ليست ماهرة فقط في مواراة ضعفها بل بارعة أيضاً – وربما ابتداءً - في كيفية استغلال ذلك الضعف لصالحها. وعليه، فإنّ كائناً بتلك البراعة في التعامل مع ضعفه لا يُخشى عليه من التصرّف الحكيم حيال ما يمكن أن يشكِّل نقصاً له على أيّ نطاق.
وبالعودة إلى الكفاءات/القدرات المعرفية الخالصة، وبعيداً عن الاستشهاد بأية خلاصة من هيئات بحثية مرموقة قد تغيّر/تجدّد رأيها من حين إلى حين، أو تتبرّع في المقابل بالآراء العلمية الداعمة لاتجاه بعينه لدواعٍ مبدئية من أيّ قبيل، فإن مرور فترة ليست بالقصيرة على انخراط النساء في الحياة العملية - في كل نطاق تقريباً حتى لدى المجتمعات المحافظة – كافٍ للتحقّق من أن المرأة تنهض بمسؤولياتها العملية مقارنة بالرجل كتفاً لكتف، بل إن أداء المرأة يصل في كثير من الأحيان إلى ما يفوق توقعات الرجال المتحفّظين لو أصاخوا إلى أصوات ضمائرهم وهم يراقبون أداء النساء بأقصى ما يمكنهم من التجرّد؛ وأوشك أن أقول بأن أداء النساء عندما تُتاح لهنّ الفرصة كاملة وعادلة ربما يدهشهنّ أنفسهنّ قياساً بما كنّ يطمحن إليه من مجرّد المشاركة لأجل المشاركة.
والحال كتلك، وبتذكّر ما بدأنا به هذا الحديث، فإن العالم بدون نساء سيفقد – وفق الحساب العملي المجرّد - تقريباً نصف طاقاته الانتاجية أو دون ذلك بقليل أو كثير بحسب نسبة مشاركات النساء في الحياة العملية على اختلاف بقاع العالم؛ لكن الأهم أن الوجود الإنساني سيفقد نصفه الأشدّ تأججاً بالعواطف والأبرع من ثمّ في إبداع دراما الوجود.
أدام الله على الجنسين نعمة (تحدّي؟) بقاء كلّ منهما إلى جوار (في مواجهة؟) الآخر على مختلف دروب الحياة.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: أيهما أكثر تشبّثاً بالحياة؟.. الفصل الثلاثون من كتاب "جينات أنثويّة"