جدال مُستعر واتهامات متبادَلة تتخلّلها حقائق يُقرّ بها كلُّ طرف، حيناً خلسة وتارةً أمام الطرف الآخر، ولكن في كلتا الحالين دون الوصول إلى اتفاق أو هدنة تُوقف الاشتباك الدائر أو على الأقل تخفّف من حدّة الدراما الأشدّ استعاراً في الوجود؛ تلك الدراما التي طالما أشرنا إلى أنّ حواء لا تضطلع فيها بدور البطولة الأولى فحسب وإنما تكتب إلى ذلك سيناريوهاتها الجريئة والمتجددة باستمرار.
لماذا هي معركة سرمدية؟ مطالعة التاريخ تشير إلى أن المعركة دائرة منذ الأزل، والإرهاصات الراهنة ترجّح أنه ليس ثمة من الدلائل ما يصلح لأن يعوَّل عليه تبشيراً بأن المعركة ستضع أوزارها يوماً ما.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: العالم بدون نساء.. الفصل الحادي والثلاثون من كتاب "جينات أنثويّة"
الأشد إثارة في نطاق سرمدية المعركة أنها قابلة للالتفاف بصورة تلقائية على كل الحلول المقترحة للتعامل معها، بحيث تسقط الحلولُ تباعاً لسبب أو آخر – بحسب طبيعة الحل المقترح وطبيعة الطرفين المتعاركين فرادى أو جماعات - وتظل المعركة قائمة كأنّ حلّاً لم يُقدَّم.
وإذْ لا جدال في أن حواء قد اكتسبت/انتزعت حديثاً الكثير من الحقوق التي كانت غائبة عنها طوال القرون الغابرة، فإن ذلك لم يؤثّر على المعركة السرمدية سوى شكلاً فحسب؛ فمضمون الخلاف لا يزال قائماً، إذ تُعنى المعركة السرمدية بالسؤال: مَن السبب في المشكلة؟ أكثر ممّا تُعنى بالسؤال: هل نمنح أحد الطرفين (المرأة على نحو أخصّ) هذا الحق أم لا؟
في كتابهم الطريف "أشهر 50 خرافة في علم النفس: هدم الأفكار الخاطئة الشائعة حول سلوك الإنسان" الصادر في نسخته العربية عن مؤسسة هنداوي في وندسور/ونزر Windsor بالمملكة المتحدة سنة 2020، ترجمةً للأصل باللغة الإنجليزية بعنوان 50 Great Myths of Popular Psychology: Shattering Widespread Misconceptions about Human Behavior، لا يجادل المؤلفون (سكوت ليلينفيلد Scott O. Lilienfeld وستيفن جاي لين Steven Jay Lynn وجون روشيو/روسكيو John Ruscio وباري بيرستين Barry L. Beyerstein) في "الخرافة رقم 29" حول أن المعركة بين الجنسين قائمة على أسس واهية وأنها إلى زوال، بل يسعون تحديداً إلى دحض "الخرافة" القائلة بأن الرجال والنساء يختلفون في طرق التواصل اختلافاً تامّاً.
يقول المؤلفون: "قليلة هي الموضوعات التي ألهمت الشعراء والأدباء والمؤلفين وكتّاب الأغاني أكثر مما فعله هذا السؤال العتيق: لماذا يبدو أن الرجال والنساء لا يفهم أحدهما الآخر؟... إن الاعتقاد أن الرجال والنساء يتواصلون بأساليب مختلفة تمام الاختلاف، مما يؤدي إلى حالات سوء فهم دائمة، هو اعتقاد راسخ في الموروث الشعبي... وتشير الدراسات إلى أن طلاب الجامعة جميعاً يرون أن الرجال والنساء يختلفون في أنماط تواصلهم. وعلى وجه الخصوص، يرى هؤلاء أن النساء أكثر انخراطاً في الثرثرة من الرجال وأكثر مهارة منهم في ملاحظة التلميحات الخفية غير المنطوقة أثناء المحادثات".
يواصل المؤلفون: "بالإضافة إلى ذلك، إذا قرأنا كثيراً من الكتابات الحالية في علم النفس الشعبي فأغلب الظن أنه قد يغرينا الانتهاء إلى أن الرجال والنساء ليسوا فقط أناساً مختلفين، بل نوعين مختلفين تماماً من الكائنات. ويؤكد كتاب "أنت لا تفهم الأمر فحسب" لعالمة اللغويات البريطانية ديبورا تانين هذا الرأي عن طريق القول باختلاف أنماط الرجال والنساء في التواصل في النوع لا في الدرجة... بعد ذلك جاء جون غراي – أستاذ علم النفس الشعبي الأمريكي – ليدفع هذا الرأي خطوة إلى الأمام ويشبّه الرجال والسيدات مجازاً بمخلوقات من كوكبين مختلفين. وقد عرض غراي لذلك في سلسلة كتب "المريخ والزهرة" التي تُصنّف ضمن كتب مساعدة الذات التي حققت نجاحاً هائلاً... وأيّد الرأي المتطرف القائل إن لكل من الرجال والنساء أنماطاً مختلفة تماماً في التعبير عن احتياجاتهم، وهذه الأنماط من الاختلاف الشديد بحيث تسبب سوء فهم مستمر بين الرجال والنساء. كتب غراي يقول: لا يختلف الرجال والنساء في طرق تواصلهم فحسب، بل يختلفون في طرق تفكيرهم وشعورهم وفهمهم وردود أفعالهم واستجاباتهم وحبهم واحتياجاتهم وتقديرهم للأمور. يبدو في الغالب أنهم من كوكبين مختلفين، يتحدثون لغتين مختلفتين".
ولأن الكتاب يريد إثبات "خرافة" الاختلافات العميقة بين الجنسين، فإن المؤلفين يطرحون أربعة أسئلة في ضوء الانطباعات السائدة عن الفروق بين الجنسين لدحضها: هل تتحدث النساء أكثر من الرجال؟ هل تكتشف النساء أشياء عن أنفسهن أكثر مما يفعل الرجال؟ هل يقاطع الرجال غيرهم (أثناء الحديث) أكثر من النساء؟ هل النساء أكثر ملاحظة للإيماءات غير المنطوقة من الرجال؟ ويزيدون بسؤال خامس بمثابة الخلاصة: ما حجم هذه الاختلافات على فرض أنها موجودة فعلاً؟
رغم الاجتهاد في الاستعانة بمعايير علمية كمقياس "كُويِنس دي" Cohen's d (نسبة إلى الإحصائي وعالم النفس الأمريكي جيكوب كُويِن Jacob Cohen) لقياس الاختلاف/حجم التأثير، والإحالة إلى نتائج العديد من الدراسات/الاختبارات العلمية، لم يخرج المؤلفون بنتيجة مخالفة للانطباعات (الحقائق؟) السائدة فيما يتعلق بالإجابة على أيٍّ من الأسئلة الأربعة المطروحة بقدر ما خرجوا بالخلاصة التالية التي تتضمّن الإجابة على سؤالهم الخامس: "الحقيقة إذن أن الرجال والنساء يتواصلون بأساليب بينها اختلاف ضئيل، وعدد قليل للغاية من تلك الاختلافات هو ما يكون كبيراً بقدر كافٍ يعطيه أهمية ما. مع ذلك، وللأغراض العملية، تزيد درجة التشابه بين الرجال والنساء في أنماط التواصل التي يتبعونها أكثر من درجة الاختلاف، وليس واضحاً إلى أي مدى تعود الاختلافات بينهم، إلى الاختلافات الفطرية بين الجنسين أم إلى اختلافات النوع فيما يتعلق بتفاوت القوة... ففي الدراسات المختلفة، نادراً ما تتعدى اختلافات النوع في التواصل النطاق الصغير لمقياس "كُويِنس دي" Cohen's d. لذلك، على الرغم من كتب جون غراي ومراكزه الاستشارية ومسرحياته الموسيقية التي عُرِضت في برودواي، فالرجال ليسوا من المريخ والنساء لسن من الزهرة. إنما، وكما جاء في كلمات باحثة التواصل كاثرين ديندايا، قد يكون أكثر دقة أن نقول إن الرجال من داكوتا الشمالية والنساء من داكوتا الجنوبية".
سواءٌ أكان الاختلاف بين الرجال والنساء – على أي صعيد وبأي مقياس - كبيراً أم صغيراً، وانقسم الرجال والنساء في الانتماء – تبعاً لذلك – إلى كوكبين مختلفين سابحين في المجرّة أو إلى ولايتين أمريكيّتين متجاورتين، فإن ثمة معركة فريدة بين الجنسين لا تزال مستعرة؛ معركة لا تعرقل الحياة قدرَ ما تُضفي على تحدّياتها عمقاً وخصوصية؛ معركة قائمة منذ الأزل، وليس ثمة من الدلائل – على الرغم من كل الجهود المقدرة – ما يشير إلى أنها لن تستمر إلى الأبد.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])