لولا عِرقيّتنا (الدفينة؟) عربيّاً لما احتفلنا لأكثر من ألف عام بأبيات المتنبي بالغة العنصريّة تذرّعاً بجمالها اللغوي وبراعتها الفنيّة. هذا ليس على سبيل إدانة الشاعر العظيم الواضح مع نفسه فيما لا يخلو من جنون العظمة والجرأة التي تصل حدود الوقاحة، بقدر ما هو لداعي التخفيف (المستحَق) عليه من تحمّل تبعات عنصريّته وحده؛ إذ لم يستطع المعجبون بالرجل على اختلاف مشاربهم وأخلاقهم أن يتحاشوا قصائده التي تنطوي على – بل تضجّ بـ - تلك العنصرية العرقية الطاغية، وكان أبعد ما بلغه أصحابُ الأخلاق الرفيعة من المتقدّمين والمُحْدَثين هو تحاشي بعض أبياته التي اشتملت على ألفاظ سوقية بالغة الفحش في الذم كتلك التي تضمّنتها قصيدتاه الشهيرتان: المقصورة (ألا كُلُّ مَاشِيَةِ الخَيْزَلَى) والبائية التي كانت سبب مقتله بحسب الرواية الشهيرة (ما أَنصَفَ القَومُ ضَبَّه).
تناول العرب جميعاً تقريباً عنصريّاتِ المتنبي الصرفة وعرقيّاته الشعرية الفادحة بأقدار متراوحة من الحذر وليس التحاشي بحال، ما يفصح عن إعجاب دفين بتلك الأشعار التي بدت الإحالاتُ إليها كما لو كانت متنفَّساً مُنجياً من اللوم لمشاعر مكبوتة تتوق إلى التحرّر وتلتمس العذر في ضرورات – وربما فحسب جماليات – الاستشهاد اللغوي والبلاغي الرفيع.
اللافت أن تلك النزعة إلى الاحتفاء العميق والمستتر بعرقيّة شعر المتنبي لم تقتصر على فئة دون أخرى أو بلد دون غيره في المحيط العربي الذي ما انفكّ يقرأ ديوان أبرز شعرائه باهتمام عظيم على مرّ العصور، فقد طغت تلك النزعة على قدم المساواة تقريباً حتى في المجتمعات التي لمزتها تلك العنصرية بـ"طرف" سوطها أو - على الأرجح – ألهب ذلك السوط ظهرَها مباشرة بلسعاته الحادة.
على سبيل المثال، عملاقنا السوداني الطيب صالح من أشدّ المعجبين بأبي الطيب، والأرجح – بطبيعة الحال - أنه لم يحتفِ مباشرة بذمّ المتنبي كافورَ الإخشيدي، لكن "عبقري الرواية العربية" السوداني التمس الصلة بالمتنبي من خلال ناقته "البجاوية" مشيراً إلى القبيلة العريقة في شرق السوداني، وهي مسألة وردت في تفسير بعض شُرّاح الديوان لبيته: "وكُلِّ نَجاةٍ بُجاوِيَّةٍ ***خَنوفٍ وَما بِيَ حُسنُ المِشى"؛ قال البرقوقوي في شرحه: "وبجاوية: منسوبة إلى بجاوة وهي أرض بالنوبة تعرف نوقها بالسرعة"، وإن يكن معظم الشرّاح – وربما كلّهم – يوردون ما لم يغفله البرقوقي أيضاً: "وقيل: قبيلة من البربر تنسب إليها هذه النوق".
احتفاء عملاقنا الطيب صالح بالناقة البجاوية لا غبار عليه، لكن الأولى في متن القصيدة اللاذعة ذائعة الصيت هو ذمّ الهجاء المقذّع غير المستحق لكافور والإشارات العرقية والألفاظ النابية المتكررة، أو على الأقل التعريض باستنكار في ذلك السياق، وليس بالضرورة أن يكون ذلك الذمّ أو الاستنكار على حساب إغفال القيمة البلاغية والجمالية للأبيات التي تتضمّن ما هو مستهجَن عرقياً وأخلاقياً؛ ولكن الأديب الكبير المفتون بالمتنبي لا يمرّ مرورَ الكرام فقط على ذلك الفحش وتلك العنصرية بل يتجاوزهما حبّاً وكرامة للسموّ الفني، حتى إذا كان جليّاً أن ذلك السموّ في الأدب الشعري يرافقه انحطاط في الأدب الخلقي.
أديبنا السوداني، الذي كان عظيماً في خلقه مثلما هو عظيم في أدبه الروائي، ليس بِدْعاً في هذا الافتتان بديوان المتنبي وسيرته إلى حدّ تجاوز عنصريته الفاضحة، فمثله من الرجال العرب الأفاضل كثيرٌ، حتى ممّن يمتهن الدعوة إلى الدين ومكارم الأخلاق؛ وإن كنّا قد وقفنا عند أديبنا الكبير على سبيل المثال لكونه الأحق بالانتباه إلى آثار العنصرية العرقية بحكم خصوصية الانتماء السوداني في المحيط العربي على هذا الصعيد.
ولكنْ لِمَ نُحمّل أديبنا العملاق المسؤولية وحده حتى على نطاق المجتمعات ذات الأصول الإفريقية التي أصابها المتنبي بلسانه الحاد في غضون هجائه كافورَ استناداً إلى لونه وملامحه؟ ألا نتحمّل جميعاً المسؤولية حين نحتفي بتلك العنصرية رجوعاً إلى طبقات عرقية متمايزة داخل مجتمعاتنا المختلطة عرقياً؟ والحال كتلك، ألا يعيب بعضُنا بعضاً بمثل ما رآه المتنبي عيباً في كافور وفي كل من يحمل لونه وملامحه أو قدراً منها؟
لا ننطلق إذن في احتفائنا بهجائيات المتنبي العنصرية من خلفية جمالية استثنائية في البلاغة الشعرية فحسب، وإنما بصورة موازية من نزعات عميقة في التمايز العرقي لا يكاد يسلم منها أحد وهو يرى نفسه يسمو على غيره من المنتمين إلى هذه الفئة أو تلك. كان المتنبي إذن بارعاً في الانتباه إلى تلك النزعة النفسية، ليس فقط في مقام هجائياته العنصرية فحسب وإنما في معظم أغراض شعره الذي يترفّع فيه عن الناس جميعاً في المكانة (تَغَرَّبَ لَا مُسْتَعْظِمًا غَيْرَ نَفْسِهِ * ولَا قَابِلًا إِلَّا لِخَالِقِهِ حُكْمَا)، مدغدغاً بذلك مشاعر معجبيه وكلٌّ منهم يرى نفسه جديراً بمنزلة فريدة حتى إذا لم يكن قد أنجز شيئاً في استثنائية ما أنجزه شاعر العرب العظيم.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: المعركة السرمدية.. الفصل الأخير من كتاب "جينات أنثويّة"