نحن مضبوطون ابتداءً على وضعية المقارنة مع الآخرين؛ ما يعني أنّنا عندما لا نقارن أنفسنا بأحد فإننا نكون إمّا في لحظة غفلة/انشغال لأيٍّ من الأسباب وإمّا في محاولة مصطنعة لِلَيّ عنق الحقيقة الفطرية سعياً إلى إثبات أن الآخرين لا يعنوننا في كثير أو قليل.
الآخرون يعنوننا في قليل وكثير، بحسب طبيعة كلٍّ منّا وبحسب السياق؛ ولكنْ استجابةً لنصائح نفسيّة لا تخلو من الوجاهة، فإننا كثيراً ما نزعم تجاهل آراء الناس فيما يخصّنا ونحن نترقّب أفكارهم ومشاعرهم تجاهنا من طرف خفيّ.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: عنصريّتنا لا عنصريّة المتنبي وحده
المقارنة إذن فطرية، وكل ما هو فطري لا يخلو على الأرجح من الفائدة، بل هو مفيد بصورة أساسية وليس من الحكمة إنكاره؛ وبصورة موازية ليس من الحكمة الإفراط في الإذعان له بحجة كونه فطريّاً.
هل الموازنة هي ردة الفعل الحكيمة تجاه المقارنة مع الآخرين مقابل إمعان النظر إلى الذات؟ في الواقع، من المهم الانتباه إلى أن الموازنة كثيراً ما تكون مضلّلة فيما يتعلّق بالوصول إلى حالة "الاتّزان/التوازن" النفسي التي ننشدها على كل صعيد وليس في سياق المقارنات مع الآخرين فحسب.
كثيراً ما تمنح كلمة الموازنة إحساساً زائفاً بالاتزان والعدل، فمَن يسعى إلى الموازنة غالباً ما يجد نفسه مدفوعاً إلى حيث يقتسم الأمران موضوعا التنازع – في أي سياق - استجاباتِه مناصفةً بصرف النظر عن كون ذلك عدلاً أم لا؛ والغالب أن أحد طرفَي التنازع أولى بقسط أكثر والآخر بقسط أقلّ في القسمة، بصرف النظر عن أيهما أفضل في هذا السياق وذاك: الأكثر أم الأقل.
الأولى إذن المفاضلة لا الموازنة، بحيث يأخذ كل طرف ما يستحقّه/يحتاجه بحسب السياق؛ فعلى صعيد المقارنات لا يمكن القول مثلاً – تطلّعاً إلى تحقيق الفائدة العملية والنفسية المثلى - بأن الواجب أن نقارن أنفسنا بالآخرين نصف الوقت وأن نمعن النظر إلى ذواتنا النصف الآخر من وقتنا.
من المهم - دون الحاجة إلى الانزعاج من القدر الفطري من المقارنة ممّا لا يمكننا التحكم فيه ببساطة - أن نقارن أنفسنا بالآخرين من أجل أن يلهمونا وليس بداعي التقليد الحرفي لأفعالهم أو سلوكهم في أي سياق؛ وعندما نحصل على ما يلزمنا من الإلهام فمن الحكمة أن ندَع ذلك الإلهام يعمل في صمت، ليس فقط بحيث لا يسمعه الآخرون بل بحيث لا نبالغ في الإصاخة إليه نحن أنفسنا.
وإذا كانت المقارنة مع الآخرين تستولي تلقائياً على القسم الأعظم من وقتنا دون أن نشعر بذلك بالضرورة، فإن القسم الأعظم من وقتنا الذي نشعر به يجب أن نركّز فيه على النظر إلى ذواتنا بثقة؛ فلذلك فوائد جمّة منها إتاحة الفرصة للآخرين من حولنا كي يستلهموا أفضل ما فينا، ما يعمّق ثقتنا بأنفسنا ويمنحنا ما نحتاجه من الرضا وبعض اليقين.
من الحكمة ألّا ندع شخصاً بعينه أو مجموعة محدّدة من حولنا تستحوذ على اهتمامنا بحيث تصبح موضوع مقارناتنا الأوحد؛ ومن المهم بصورة موازية ألّا ندع انتباهنا يتشتّت بحيث نقارن أنفسنا مع كلّ من هبّ ودبّ ممّن عظم شأنه أو قلّ.
المقارنة بالآخرين عبر استلهامهم عميقاً هي تجربة نوعية وليست كمّية في الأساس؛ تجربة لا تُعنى ابتداءً بالكثرة أو القلّة ولا يحدّها صغير أو كبير.
وإذ لا مناص ولا بأس بالمقارنة على وجه العموم، فإن معيارنا الأجدر بالانتباه على هذا الصعيد هو أنفسنا؛ المقارنة بذواتنا التي كنّاها أمس وبتلك التي نطمح إلى أن نكونها غداً.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])