موروثنا القِيَمِي والثقافي والشعبي يتأرجح على اختلاف المقامات بين الحض على المغامرة باعتبارها تجسيداً للشجاعة وجراءة الاكتشاف وسموّ الطموح وبين تزيين القناعة بوصفها مثلاً لبعض أسمى أشكال الخلق الرفيع؛ لكنّه تأرجح يشير إلى الاضطراب أكثر ممّا يفيد الامتزاج الخلّاق بين متناقضات الوجود على اختلاف صورها ماديّاً ومعنويّاً.
الامتزاج (المزج) هي الكلمة المثلى في الدلالة على حكمة التعامل مع متناقضات الوجود في أي سياق؛ وذلك بالمقارنة تحديداً مع كلمة الموازنة (الاتزان) التي تشير إلى مواءمة متكلَّفة بغرض الوصول إلى حالة وسطية مصطنَعة؛ فالمناصفة (الاقتسام بالتساوي) لا تعني العدل في كل الأحوال، بل الأغلب أن العدل يرجّح في معظم الأحوال قسمةً ليست متساوية وإنما بما يحتاجه/يستحقّه كل طرف بحسب حجمه/حقه؛ يستوي في ذلك ما كان ماديّاً ومعنويّاً ممّا يُقتسَم في أيّ نطاق.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: قارن ولا تقارن
بذلك في الاعتبار، وفيما يخصّ مقامنا هذا عن المغامرة، لا يكمن الخير والحكمة بالضرورة في أن نتّخذ منزلة وسطى بين المغامرة/التغيير وبين القناعة/الركون، ولا في أن نغامر لنصف الوقت وأن نقنع بما نحن عليه خلال النصف الآخر من وقتنا ضمن أي نطاق زمني. المسألة مرتبطة إلى حد بعيد بطبيعة كلٍّ منّا، دون إغفال حقيقة أن الثقافة التي ننتمي إليها تؤثّر على قراراتنا تأثيراً عظيماً، وتؤّثر من قبل على ما نراه صواباً/صالحاً أو خطأً/فاسداً في هذا الموقف وذاك.
غامِر عندما تجد رغبة جامحة تسيطر عليك لخوض تجربة جديدة ظللت تَتَهَيَّبها لأمد طويل؛ لا يعني ذلك أن تندفع مباشرة نحو التجربة دون تبصّر بالضرورة قدرَ ما يعني أن تمنح نفسك الفرصة لخوضها متسائلاً: لم لا؟ هذا، وليس ثمة مانع من أن تُجري قبل المغامرة حساباً/تقييماً للمخاطر بحيث تتوقّع أسوأ سيناريوهات ما بعد المغامرة وتنطلق من ثم وأنت تعرف أكبر ما يمكن أن تخسره وخطتك لمواجهة ذلك الاحتمال، فالمغامرة لا تعني لزاماً الانطلاق وأنت مغمض العينين إلى المجهول كما لو كنت تسحب ورقة كُتب عليها أمر لا تعرفه عليك تنفيذه أو كما لو كنت تمارس مقامرة في تهوّر "لعبة" الروليت الروسية Russian Roulette.
وعندما تجد نفسك في المقابل مطمئنّاً إلى ما أنت فيه، ليس من الواجب عليك الاندفاع إلى مغامرة من أي قبيل فقط كي تثبت لأيٍّ من الناس أنك جسور لا تتهيّب التغيير وارتقاء المخاطر. الشجاعة والثقة يقتضيان منك حينها أن تعلن أنك لا ترغب في المغامرة/التغيير وحسب، دون أن تكون ملزماً بأيّ تفسير/تبرير لأيٍّ ممّن حولك.
الأدهى من مواجهة الآخرين في امتحان المغامرة مقابل القناعة هو مواجهة ذاتك. ليست مشكلة أن تعيش حياتك كلها مغامراً، وليست مشكلة في المقابل أن تعيش عمرك كله قنوعاً لا تحبّ التغيير. المهم دوماً أن تفعل ما تجد نفسك مدفوعاً إليه بقوة عظيمة ولو كان ذلك الذي تندفع إليه بشدّة في أيٍّ من الأحوال هو السكون المطلق؛ والمهم كذلك أن تجنح إلى ما تجد نفسك مطمئنّاً إليه اطمئناناً طاغياً ولو كان ذلك الذي تطمئن إليه في أيٍّ من المقامات هو المغامرة الجامحة.
اعمد إلى المغامرة/التغيير أو القناعة/السكون أو امزج بين الحالين بأي قدر وفق ما تجد المقام يقتضيه بحسب تقييمك الذاتي الصرف في أي وقت. لا تحذر شيئاً قدْرَ حذرك اتّباعَ أحكام الآخرين في أي اتجاه أو الموازنة/المناصفة بين الحالين فقط من أجل بلوغ منزلة وسطى متوهَّمة على أنها الحكمة أو الخير المطلق؛ فقد يكمن الخير/الحكمة في الجنوح إلى أحد النقيضين بحسب ما تقتضي الحال؛ والحال المقصودة هنا هي حالك أنت إذ تمعن النظر مليّاً إلى أعماقك دون أن توافق الآخرين مداراةً لهم أو تخالفهم في المقابل لمجرّد المخالفة.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])