عمرو منير دهب يكتب: اقلق ودع القلق

الوصايا الكلاسيكية والحديثة على حدّ سواء تقريباً تحضّ على عدم القلق أو على الأقل التخفيف من حدّته إلى أقصى الحدود الممكنة، فما عساها أن تكون فائدة القلق، أو - للدقّة – فائدة الحثّ على القلق؟

قبل الإجابة على السؤال عن "مديح" القلق والحضّ عليه، لا بأس بالمرور سريعاً على ثقافة "ذمّ" القلق بشقّيها الكلاسيكي والحديث. أمّا الكلاسيكي، فهو ذلك المتمثّل إجمالاً في تراث الإنسانية بمختلف أشكاله الثقافية والعقائدية والروحية ممّا ذهب في مجمله إلى إعلاء قيم الصبر والعفو والسكينة وما على منوالها بوصفها نماذج لتجسيد المثل العليا التي يجب أن يكون عليها الإنسان والبشرية جمعاء من أجل صلاحها. وأمّا الأدبيات الحديثة، التي عُضِّدت بمفاهيم مثل التنمية البشرية وتطوير الذات، فقد أكّدت فكرة الإعلاء من قيم الصبر والعفو والسكينة ليس ابتداءً لكونها قيماً رفيعة وإنما – بصورة أساسية - لِما لها من فوائد (مادية ومعنوية) تعود على الفرد نفسه بشكل مباشر في عصر بات يُعلي كثيراً من شأن المزايا الفردية ويعتمد عليها بشكل كبير (رئيس؟) في دفع عجلة الحياة انطلاقاً من صفات وطباع متجذّرة في النفس البشرية كالتنافس المحموم والأنانية العميقة التي يحاول الجميع تجميلها بأكثر من غطاء أخلاقي وحيلة اجتماعية؛ كل ذلك دون التعدّي على القيم الجماعية/قيم المجتمع بالضرورة.

الفوائد المعنوية التي تعود على الفرد من التحلّي بالصبر والصفح والسكينة يمكن إجمالها في التصالح مع الذات وفي الصورة الجاذبة للآخرين وما يتبع ذلك من راحة بال وقبول عريض من جانب المجتمع. أمّا الفوائد المادية فلا تختلف كثيراً، لأن من شأن الفوائد المعنوية المشار إليها أن تضمن للفرد فرصاً أكبر على نطاق الحياة العملية وتحقيق المصالح الشخصية، وذلك دون إغفال أهمية التحلّي بروح المنافسة على الصعيد العملي، وبالانتباه إلى خطورة تأثير مسمّياتنا الملطّفة - على شاكلة "المنافسة الشريفة" – المتمثّلة في عرقلة إدراكنا لحقائقنا النفسية وحقائق وجودنا الفكرية المطلقة بقدر ما يمكن الحديث عن المطلق.

قلّما تكون المنافسة شريفة، ولكن الأدبيات الحديثة لمفاهيم التنمية البشرية وتطوير الذات لا تُعنَى كثيراً بالشفافية وتمسية الأشياء بمسمّياتها الصادقة على صعيد مواجهة الذات أمام الدوافع النفسية والأخلاقية المتضاربة، بل كثيراً ما تجنح تلك المفاهيم إلى الالتفاف على حقائقنا النفسية المجردة طمعاً في الحصول على مكاسب مادية ومعنوية مُرضية؛ والاهتمام بالحقائق النفسية والوجودية المطلقة على كل حال منطقة شائكة تجذب الفلاسفة وعلماء النفس والمفكّرين المشاكسين بصفة خاصة ويهرب منها غيرُهم في أغلب الأحوال.

الجانب الطبي لذم القلق وآثاره السلبية لا يحتاج إلى تأكيد إلّا على سبيل التذكير العابر. ألم يحِن إذن أوان الإجابة على السؤال عن فائدة الحثّ على القلق؟ بلى، والإجابة المباشرة تكمن إجمالاً في فكرة أثر القلق في الحضّ على السعي والطموح وبلوغ منازل سامية متجدّدة على كل صعيد عوضاً عن الركون إلى حالة ماثلة – مهما تكن مُرضية – بحجة القناعة.

ومع أن دافع التغيير الرئيس هو الملل تحديداً، فإن القلق بمثابة الباعث الأشدّ اشتعالاً في الحثّ على الحركة. من المهم الانتباه هنا إلى أن الفكرة المنشودة من الحركة/التغيير ليست السعي إلى الأفضل فحسب، فالتغيير كثيراً ما يكون مطلوباً في ذاته، ذلك أن "الأفضل" قد يكون موضعاً للاختلاف حوله بتباين المصالح ووجهات النظر، ومن ثمّ يتعاظم الجدل في الانطلاق إلى "أفضل" تراه طائفة أخرى على أنه "أسوأ"، وتتردّد طائفة ثالثة في الإقدام عليه لكونها غير متأكدة مما إذا كان "أفضل" أم "أسوأ"؛ في حين إن جرأة التحرّك من أجل التجديد تفتح لاحقاً آفاقاً لا تخلو ممّا هو مفيد حتى لأولئك الذين لم يكونوا متحمّسين لفكرة الحركة/التغيير/التجديد.

بالعودة مجدداً إلى الناحية الطبية الصرفة، لا يخلو القلق من الفائدة؛ فنصيحة "لا تقلق" كثيراً ما يُساء الانصياع إليها بحيث يصبح الفعل هو كتم/كبت القلق لا الانقطاع عنه، ما يعني مفاقمة الأثر الصحي السيّء وليس التخلّص منه.

اقلق، ولكن ليس إلى درجة أن يصبح القلق عندك عادة؛ بل اقلق حتى تتحرّر من القلق داخلك ولا تدعه يتراكم ويتفاقم. اقلق من أجل استفزاز الكائن المطمئن داخلك لاستخراج أفضل ما فيه مما تحجبه القناعة والطمأنينة والسكينة التي هي من كرائم الطباع ولكن ليس في كل الأحوال.

وكالعادة مع متناقضاتنا، اعمل دوماً على ضبط مزيج القلق والسكينة عندك ليس دوماً على معيار واحد ثابت وإنما بشكل متغيّر مراعياً ما يقتضيه كل سياق وكل أوان.

بذلك في الاعتبار، اقلق ولا تقلق، ولا تنزعج من نفسك وأنت تتقلّب بين الحالين.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])