(1)
(السمعة الحسنة) مصدر أساسي للقيمة في كل المهن، حتى تلك المهن التي نظنها مجافية بطبيعتها لحسن السمعة، كالسرقة أو القوادة أو المقامرة..تتطلب من المشتغلين بها التحلي بأخلاقيات مهنية صارمة، تكسبهم السمعة الحسنة بين أقرانهم وزملائهم والمتعاونين معهم، وإلا نبذ مجتمع اللصوص زميلهم الكذاب، ونأت العاهرات بأنفسهن عن القواد المخادع، ورفض المقامرون اللعب مع المقامر الغشاش.
فمابالكم بمهنة كالإعلام؟!
(2)
يلوث الإعلامي سمعته بطريقتين اثنتين:
تدريجيا وعلى مدى زمني طويل بجرعات صغيرة متتابعة من الكذب والتضليل وغياب الدقة في تحري الأخبار..أو دفعة واحدة بكذبة كبيرة تتحول إلى فضيحة محلية أو عالمية.
وحين تتلطخ سمعة إعلامي، فإنه يُطرد من المهنة بقوة الجمهور الذي ينصرف عنه لأنه لم يعد يثق فيما يقوله، فتُضطر الصحيفة أو القناة التي يعمل بها إلى فصله انصياعا لإرادة الجمهور، هذا إن افتقر هو إلى الحد الأدنى من الكرامة الذي يدفعه إلى الاعتذار ثم الاستقالة.
حدث هذا ويحدث في الدنيا كلها، إلا في مصر!
(3)
نُعلم أولادنا في المدارس أن الجيش المصري لم يُهزم في حرب ١٩٤٨ إلا لأن السراي وأسيادها الإنجليز أمدوه بأسلحة فاسدة.
كانت البندقية تنفجر بين يدي الجندي المصري فتقتله أو تذهب بذراعيه..فكان أن انتصرت العصابات الصهيونية، وضاعت فلسطين..
ولكننا لا نُعلمهم أن هزيمة ١٩٦٧ كانت بدورها ثمرة مريرة لأسلحة فاسدة من نوع آخر، تنطلق بها الحناجر من استوديوهات الإذاعة، لتكذب وتضلل وتغالي وتشوه الحقائق تشويها كاريكاتوريا مرعبا، جعل المصريين يظنون أن جنودهم سيفتحون تل أبيب، بينما هم يتقهقرون إلى غرب قناة السويس.
ولم يكن السلاح فاسدا في ١٩٧٣ لا بين أيدي الجنود، ولا في الاستوديوهات، فكان الانتصار.
اليوم نرى السلاح الفاسد مشرعا من جديد عبر شاشات الفضائيات منذرا ومتوعدا بشر مستطير.
(4)
أدوار البطولة في الإعلام المصري هذه الأيام مسندة حصرا لثلاثة رجال وامرأة، قد ينافسهم زميل أو زميلة من هنا أو هناك، لكن الرباعي يستعيد صدارة المشهد سريعا، بفضيحة جديدة يتناوبونها بينهم، فينشغل بها المفسبكون والمغردون وأصحاب مواقع النميمة ومدمنو التعليق على مقاطع اليوتيوب..هؤلاء الذين يجبرون (الرأي العام المصري) بالإلحاح الشديد على أن ينشغل بالمذيعة (كودية الزار) وطاردة العفاريت ومذلة السوريين، أو بالمذيع المروج للمجلس الأعلى للكوكب وعدو الراقصات الأول في قارة أفريقيا، أو بالمذيع مشعل الحرائق القادر على إقناع جدنا آدم بتطليق جدتنا حواء، والذي يشتم ضيوفه وحين يردون عليه (يزعل قوي قوي قوي)، أو بصديقنا (غير المعصوم) الذي لا يعرف الفرق بين ألعاب الفيديو وصور الأقمار الصناعية، والذي يغمز ويلمز بلا انقطاع على الهواء لمدة ٤ ساعات يوميا!
لقد أدمن هؤلاء الأضواء والمرتبات الدسمة التي يدفعها المعلنون، وصاروا صانعين للكذب المثير، ونموذجا لانعدام المهنية، لكن الناس لا يتوقفون عن متابعتهم.
المصريون أذكياء، وما عادوا يصدقون إعلاميين صارت سمعتهم في الحضيض، ولكن المصريين يتسلون بمتابعة الفضائح على الشاشات، هربا من واقعهم المقلق.
لم يعد المشاهد المصري ينتظر من أبطال فضائياته أن يقدموا له (المعرفة) بل يتوقع منهم (التسلية)!
ولكن أية تسلية مسمومة هي!
(5)
وجه الخطورة الحقيقي هو اعتبار تلك النماذج الساقطة مهنيا، معايير للنجاح، يُقاس عليها، ويُقتدى بها.
والضرر الفادح الذي حدث ويحدث كل ليلة، واقع على (مهنة) كادت تصبح (مخلة بالشرف) بعدما أدمن (نجومها) (الأسلحة الفاسدة) التي تنفجر لعدة ساعات يوميا في عقول ملايين المصريين.
وأسوأ ما يمكن رصده الآن من آثار مدمرة لسيادة هذا النمط من الإعلاميين الذين لا يهمهم (حسن السمعة) في شيء طالما لا يمس ملايينهم السنوية، يمكن اختصاره في جملة واحدة قالها مصري قبل أيام في تقرير لإحدى القنوات الإخبارية العربية الكبرى حول تدهور الإعلام المصري: “بيقولك لو مش عاجبك غير المحطة، طيب ماهما في كل المحطات، يعني أكسر التليفزيون ولا احرقه؟”
سؤال مهم، أحيله إلى ضمائرنا جميعا، أقصد إلى من تبقت لديهم ضمائر حية.