مثلما رأينا مع القلق، من النادر أن نرى الهواجس (أيّاً من درجات وأشكال الوساوس القهرية Obsessions) مذكورة بالخير، لا سيما في معتقداتنا التقليدية؛ أمّا ثقافتنا الحديثة فقد أضحت أقلّ توجّساً تجاه تلك الهواجس/الوساوس بفضل فتوحات علم النفس والطب النفسي وبركات الإقبال المتنامي على أدبيّات التنمية البشرية وتطوير الذات، ولكن مؤكداً ليس بما يصل إلى حالة تصالح مثلى مع الهواجس/الوساوس؛ والأرجح أنه ليس من المفترض أن نصل إلى حالة تصالح مُثلى في ذلك النطاق على كل حال.
لماذا يجب علينا أن نقلع عن الاستسلام للوسوسة والهواجس القهرية؟ سؤال لا بدّ منه لمواجهة الأسئلة المقابلة التي من المتوقع أن تنهال بالنظر إلى الشق الثاني من النصيحة التي في العنوان؛ ذلك رغم أننا جميعاً في غِنى عن الإجابة سوى من باب التذكير، أو ربما – من جانبي على الأقل – لإراحة الضمير بتغطية ذمّ الجانب السلبي من المشكلة ولو كان في وضوح شمس ظهيرة ساطعة في سماء صافية.
أكاد أقول لا شيءَ يمكن أن يعرقل حياة أحدهم مثل وساوس قهرية تستبدّ بعقله ووجدانه؛ ومكمن العلّة تحديداً هو الصعوبة البالغة في الإقلاع عن الوساوس القهرية التي تكاد تبدو كل حيلة للكفّ عنها خاضعة لسيطرتها؛ كأنما يعتمد الوسواس القهري آلية/استراتيجية أشبه بالتدمير الذاتي للحلول المقترحة، فالحل مهما يكن عبقريّاً لا يسلم هو نفسه من هواجس تنال من فاعليّته إلى أن يتمّ نبذه تماماً من جانب الموسوَس المسكين. وغنيّ عن القول سوى من باب التذكير أنه ما من مشكلة إلّا ولها حلّ، والوساوس القهرية ليست استثناءً في هذا ولكن حلولها/علاجها بحاجة إلى إرادة وصبر ومثابرة، ومن قبلُ إلى مهارة من جانب المعالِج الذي يمكن أن يكون هو الموسوس نفسه في الحالات غير المستفحلة التي يحاول الواحد فيها مساعدة نفسه بالقراءات ذات الصلة واستشارة الموثوق بهم من المقربين وما على تلك الشاكلة من أنماط مساعدة الذات. مَن مِنّا لا يسلم من الوساوس/الهواجس القهرية بدرجة أو أخرى؟
اكتفاءً بذلك القدر من الحديث التذكيري من باب إبراء الذمّة عن ضرورة الإقلاع عن الوساوس القهرية، ننتقل إلى السؤال عن الفوائد التي يمكن أن تكون كامنة في بعض أنماط الهواجس المعتدلة، إذا صحّ أن توصف الهواجس في أي مقام بالاعتدال.
نتجاوز هنا عن القول الذي بات من "كلاسيكيات" ثقافة تطوير الذات والتنمية البشرية الحديثة (أرجو أن تجوز مفارقة التعبير) والمتمثّل في توجيه الموسوس إلى وظائف بعينها تحتاج – مثلاً - إلى الاهتمام بالتفاصيل والدقة الفائقة ممّا لا يصبر عليه سوى موسوس من طراز رفيع. تلك فائدة حقيقية لا بأس بها، لكنها لن تصحب الموسوس بحيث يصبح بإمكانه الانتفاع من سلوكه القهري في حياته الاجتماعية بعد ساعات العمل، بل الأرجح أن تسبّب له الوساوس مشاكل عديدة ومستمرة حتى في نطاق عمله مهما يكن ذلك النطاق معنيّاً بالتفاصيل الصغيرة والدقة المتناهية على سبيل المثال، فالمرونة – التي يفتقدها الموسوس – مطلوبة في كل مجال وعلى كل صعيد.
لن أقول مع أنماط ودرجات الوساوس القهرية البسيطة أو المعتدلة فحسب (إذا كان معقولاً أن يُوصف السلوك القهري بالاعتدال على أي صعيد)، وإنما حتى بأخذ المستويات المرتفعة للهواجس القهرية سيكون من المفيد التصالح مع الذات؛ والتصالح مع الذات هنا لا يعني الاستسلام لتلك العلّة المضجرة قدر ما يعني مواجهة المشكلة والاعتراف بأن ثمة سلوكاً غير طبيعي من المهم مواجهته والسعي إلى التخفيف من وطأته القاسية بكل السبل الحكيمة الممكنة.
جنباً إلى جنب المثابرة في السعي إلى معالجة الهواجس/الوساوس القهرية الحادّة، لا غضاضة من، بل من الضروري الانتفاع من التجلّيات المفيدة على النطاق العملي لتلك الهواجس، والمتمثلة - كما أشرنا بتحفّظ عند التطرّق إلى "الكلاسيكيات الحديثة" للتنمية البشرية وتطوير الذات - في الدقة المدهشة والنظام الداعي إلى الإعجاب والنظافة المبهرة وكل ما يمكن أن تعود به الوساوس من فوائد مادية مباشرة على الموسوس ومن الثناء عليه وتقديره من قبل الآخرين.
الأهم على نطاق النصيحة "وسوِس" هو ألّا تخجل من سلوكٍ تجده رغماً عنك جزءاً من طبعك مهما تكن تجلّياته؛ وسوس – بمعنى اترك نفسك على سجيتها في هذا الصعيد – وأنت تسعى إلى الحدّ من شدة الوساوس دون أن تنشغل بالمهمة المستحيلة بحثاً عن عصا سحرية تمكّنك من الإقلاع عن الوسوسة مرة واحدة وإلى الأبد. لا تنزعج من هواجسك القهرية ما دمت لا تني تفعل الأمرين: المثابرة في الحدّ من شدة تلك الهواجس، والتصالح مع القدر الذي لا يزال في حوزتك منها رغماً عنك؛ وذلك دون أن تنسى في كل الأحوال الانتفاع بتجلّيات الموسوسين المدهشة في الدقة والنظام والنظافة والالتفات إلى التفاصيل، وهلمّ جرّاً؛ إذ لا تخلو أيّة مشكلة عويصة من فوائد جمّة بقدر مهارتنا في ألّا ندع جانباً واحداً من الصورة – مهما يكن مكفهرّاً ومؤلماً – يستبدّ بأبصارنا.