ناحوم أفندي.. بين مغامرة كتابة التاريخ وتعرية السردية الإسرائيلية

منذ السابع من أكتوبر، ومع اندلاع حرب المقاومة الفلسطينية ضد جيش الاحتلال الصهيوني، وأثناء ارتكاب إسرائيل جرائم إبادة جماعية بحق المدنيين الفلسطينيين بدعم من أمريكا، ظهرت العديد من المبررات التي لا تزال الولايات المتحدة تحاول تصديرها ضمن السردية الصهيونية لوسائل الإعلام. كونها تدعم دولة الاحتلال لأنها الدولة الوحيدة التي تتبنى سياساتها الديمقراطية في الشرق الأوسط.

هذه ليست مجرد دعابة تسعى أمريكا تضفيرها في سرديتها المبتذلة، كمحاولة لاستخدام الديمقراطية كسلاح في حربها الإعلامية. لكن المفارقة الكبرى تظهر عندما يخرج اليهود ورجال الدين من الحاخامات الذين يعارضون جرائم الإبادة والفكرة الصهيونية ذاتها، ليس فقط على مستوى الدين والسياسة، ولكن أيضًا في مجال الفن. قبل ذلك، صدرت العديد من الكتب والأفلام الوثائقية التي ألفها يهود يحملون الجنسية الإسرائيلية، والتي ترصد الجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال تحت مظلة الصهيونية. في المقابل، واجهوا قمعًا من السلطة نفسها التي تزعم أنها تدافع عن تهديد غير موجود، وفي الوقت نفسه واجهوا عدوانًا مماثلًا يدحض زعم سياسة دولتهم.

ما يدعو للتفكير في هذه الإشكالية هو أن الفلسطينيين أنفسهم لم يسعوا قط لتجنيد من يؤيد قضيتهم لدعمها، على عكس الطرف الآخر، بل تحركت كل تلك الأدوات لخدمة القضية بدافع إنساني بحت، وبضمير يعارض الانحياز لجماعة لا تؤمن بالفروقات الجوهرية بين اليهودية والصهيونية. الفلسطينيون لا يعارضون المعتقد، بل يعارضون الفكرة، الصهيونية كونها فكرة بينما اليهودية معتقد.

في كتاب ناحوم أفندي ـالصادر عن دار المصرية اللبنانية عام 2024- ترصد الكاتبة سهير عبد الحميد، رغم أن الكتاب يعد سيرة ذاتية لآخر حاخام لليهود في مصر، تلك الأطروحات والإشكاليات في التفرقة بين اليهودية والصهيونية. مرورًا بتاريخ اليهود مع أواخر الدولة العثمانية وخلال تحقيق وعد بلفور بإقامة دولة لليهود في فلسطين، وبداية تحقيق حلم أرض الميعاد على أرض الواقع، ترصد سهير عبد الحميد العديد من التقلبات السياسية والأيديولوجية على مر التاريخ في تحول اليهود من مجرد طائفة إلى جماعة سياسية تعمل في الخفاء والعلن. في هذا التحقيق الذي اتخذ أسلوبًا لافتًا، تكشف بعض المؤامرات التي انعقدت لحل الدولة العثمانية، كونها كانت أكبر عدو لإقامة دولة يهودية في ذلك الوقت.

استطاعت سهير عبد الحميد في كتابها أن تنفرد بمعالجة هذه الإشكاليات على هامش السيرة الذاتية للحاخام الأخير لليهود في مصر ناحوم أفندي، بأسلوب يشكل مغامرة شديدة الحساسية في أدوات كتابة التاريخ. أحيانًا تلجأ إلى خلق حوارية عبر مشهد سينمائي، تميل في بعض أدواتها لكتابة سيناريو لمشهد مصور، تلتقط فيه صورة متخيلة للواقعة، كأنها بهذه الطريقة تجعل المتلقي يتحسس وترًا مفقودًا، وقد تؤكد بذلك على حقيقة تاريخية قائمة، أو قد تنفيها على أعتاب تفكيكها إلى سرديات صغيرة للأفكار التي تشكل شخصياتها الجدلية. يكمن نجاحها في البحث عن هذا الخيط الرفيع في أوراق التاريخ الذي تسير عليه خطى الحركة الصهيونية بين جوانبها المتعددة، وحيلها في هدم وبناء سياسة تتوافق مع طموحها في التوسع، ليس بحثًا عن حق مكتسب، ولكن بحثًا عن سرقة متقنة.

تقدم سهير عبد الحميد أطروحتها بدءًا من سياسة الدولة العثمانية تجاه الطائفة اليهودية، كونها الأقلية التي تشكل تهديدًا مبطنًا لها، وفي الوقت نفسه تنتصر حقوقها الظاهرة على مواجهة خبث مؤامراتها. ففي الوقت الذي كان السلطان العثماني يؤمن دور العبادة اليهودية وحقوقها، تشكلت على أساسها حيلة للتغلغل في أعمدة الحكم العثماني، مما أسهم في انتشار "يهود الدونمة" الذين تظاهروا بالإسلام ظاهريًا للتقرب من أعمدة الدولة، مما أدى إلى صدوع ستؤدي إلى انهيارها في نهاية المطاف مع انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وعلى الجانب الآخر، حين بدأ الترويج للفكر الصهيوني، كان هناك رفض تام من قبل بعض الحاخامات المعارضين لجوهرها المختلف عن المعتقد، مثل الحاخام "موشيه هاليفي" الذي بعث برسالة إلى كبير حاخامات القدس "يعقوب شاؤول" يحذره فيها من الاشتراك في صحيفة "هستسفيراه" التي تنشر الكثير من المقالات عن الصهيونية التي تتعارض تمامًا مع اليهودية.

تلك الفترة كانت تتراوح بين رغبة اليهود في تجسيد حلم أرض الميعاد في الواقع، وبين مواجهة من يخونون مسار التوراة بانحرافاتها. وعلى الرغم من المشكلات التي تواجه أي أقلية في العالم، كان اليهودي يشعر دائمًا بنقص حاد تجاه نظرة الآخرين، كون الهوية بالنسبة له لم تكن انتماءً لوطن يداوي جراحه في وقت الشدة، ولكن لأنه كان يعتقد أنه لم ينتمِ إليه أبدًا.

هذا الانتماء لم يكن انتماءً لأقلية تنحاز إلى غربتها أو إلى هويتها الوطنية، بل كان انتماءً من يشعر بالاستحقاق. ليس فقط لكونه معتقدًا يمثل متوالية لطوائف مختلفة تعبر عن التنوع الديني في الدولة، ويحقق شرط المواطنة، ولكن المؤامرات التي انعقدت شكلت رؤية أكثر جدلية من الفكرة الصهيونية ذاتها، حيث أن من يعتنقون الفكر الصهيوني لم يشعروا قط بأنهم جزء من الوطن لأنه مكان مولدهم، بل لأن فكرة الوطن تشكلت على أساس الانفصال عن أي طائفة مختلفة لأنها لن تحقق شرط النقاء، أي "يهودية خالصة، تملك الأرض والأرض ملك لها دون مشاركة". يظهر هذا التناقض إشكالية أخرى تؤكد أن الفكرة الصهيونية هي ابنة الادعاء الزائف، وكذلك ابنة الآلات التسويقية التي تنعدم فيها الإحساس بالحقيقة المطلقة، والتي تفترض أن أبناء الوطن هم الذين يلاقون الموت في كل مرة يدافعون فيها عن قضيتهم.