ينطوي مصطلح "عبيد الشعر" المنسوب إلى الأصمعي على قدر من الإطراء ربما يوازي ما يتضمّنه من إيماءات القدح أو التعريض، وذلك بصرف البصر عمّا أراده الأصمعي من المصطلح وعمّا يريده كلّ من يورده انتصاراً لمدرسة الصنعة أو انحيازاً إلى مدرسة الطبع.
الصنعة قديمة في الشعر العربي قِدم الجاهلية، وأشهر شعرائها كما هو معروف زهير بن أبي سلمى ؛ وكل شاعر في أي زمان يميل في شعره بقدر أظهر إمّا إلى الطبع وإمّا إلى الصنعة، والشعراء جميعاً على كل حال يمزجون المذهبين في أشعارهم مهما تكن درجة ميل كلّ منهم إلى هذا المذهب أو ذاك. وقد نظر النقّاد إلى شعراء البديع – الذي تعاظم أثره في الشعر العربي مع العصر العباسي – على أنهم امتداد لأرباب مدرسة الصنعة؛ وإذا كان البديع قد خلب ألباب الشعراء جميعاً منذ ظهور "موضته" بوضوح إبّان العصر العباسي، فإن أبرز أعلام المدرسة لا يزال أبا تمام حبيب الطائي.
ولأن النقاد درجوا على أن يقرنوا الإسراف في البديع بالصنعة، وأن ينظروا إلى أبي تمام تحديداً على أنه شاعر معانٍ ينشغل كثيراً بالأفكار، فإن من الحكمة الانتباه إلى أن الانشغال بالأفكار ليس دوماً بالضرورة على حساب العناية بالألفاظ؛ وأبو تمام شخصياً كان حالة خاصة، فهو شاعر معانٍ يوصف بالشاعر الحكيم، وربما الشاعر الفيلسوف أيضاً؛ وهو الأستاذ الذي سما بمدرسة البديع إلى ذرى سلبت ألباب عشاقها وجلبت لها في الوقت نفسه من القدح ما أفاض فيه المنزعجون منها. بذلك، فإن أبا تمام يصحّ وصفُه بشاعر الأفكار والألفاظ معاً، بل إن ألفاظه وجُمله الشعرية لم تخلُ من العذوبة والسلاسة الفائقتين في كثير من الأحيان، وقصيدته التي مطلعها "رَقَّت حَواشي الدَهرُ فَهيَ تَمَرمَرُ ** وَغَدا الثَرى في حَليِهِ يَتَكَسَّرُ" من أبلغ الأمثلة على ذلك.
الإفاضة – نسبياً – في الحديث عن مدرسة البديع وأستاذها الأبرز أبي تمام بدا لا مناص منها على سبيل التقديم ونحن بصدد الوقوف على جناس المتنبي وطباقه في إشارة إلى أدائه على صعيد البديع بصفة عامة. وبالارتداد سريعاً إلى أبي تمام وما كان من شأنه مع البديع، فإن ما رآه كثير من النقاد لا يخلو بطبيعة الحال من الرجاحة، فولع الرجل بالبديع أفضى إلى أن يجعل المتلقِّي أكثر التفاتاً إلى تجلّياته البديعية – وربما أكثر تعثّراً بها في بعض المقامات – وهو يتجوّل في رياض أيٍّ من قصائده بما يشغل الذائقة في غير قليل من الأحيان عن الانسياب بسلاسة عبر مواضع الجمال الأخرى في القصيدة حتى ما كان متعلقاً منها بالألفاظ وموسيقاها الخالصة بعيداً عن البديع المتقصَّد تحديداً؛ وتلك مفارقة، فالمحسّنات البديعية - اللفظية بصفة خاصة - غرضها إضفاء الطلاوة على الكلمات المصوغة لا تشتيت الانتباه عنها؛ وهكذا، فإن من الواضح أن تأثير المحسنات البديعية اللفظية المكثّفة في القصيدة يبدو كتأثير جرعات مضاعفة من التوابل على أيٍّ من صنوف الطعام.
مقارنةً بأبي تمام، يبدو المتنبي شاعراً معنيّاً بالفكرة والمعنى يتّخذ الكلمات سبيلاً إلى إبراز ما يريده من الأفكار والمعاني ولا يميل إلى الإسراف في تزيين كلماته على نحو ما كان يفعل سلفه الطائي. وإذا كان الشاعر – أيّ شاعر - لا يستحق اللقب إلا إذا كان بارع السيطرة على الألفاظ، فإن إحكام السيطرة على الكلمات وبراعة اللعب بها لا يقتضيان بالضرورة الإسراف في تنميقها؛ وقد كان المتنبي كذلك، يُحكم سيطرته على الكلمات ويبرع في اللعب بها دون أن يبالغ في ترصيع جُمله بالزخارف اللغوية، وإن يكن مما أخذه عليه بعض النقاد إيرادُه الألفاظ الوحشية، ولعل الرجل كان يتباهى بتلك الألفاظ دلالة على فصاحته وسعة قاموسه ممّا استقاه من البادية إبّان مراحل تكوينه الأدبي الباكرة، فهو لا ينفي التهمة عن نفسه بل يثبتها – بشأن شوارد المعاني والألفاظ معاً - في اعتداد: "أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها ** وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ".
وإذا كانت سلاسة الانسياب ليست كل شيء - بطبيعة الحال - في مقام التذوق الجمالي للشعر، حتى على صعيد الألفاظ وموسيقاها، فهي مؤكداً من أبرز عوامل استساغة الشعر وحظوة الشاعر. واستمراراً في المقارنة مع الشاعرين البارزين، فإن القارئ ينساب في شعر المتنبي بسلاسة تفوق سلاسة انسيابه في شعر أبي تمام؛ إذ يجد المتلقِّي نفسه أحياناً مضطراً إلى وقفة – ولو لبرهة - بداعي تأمّل لفظة أو صورة أو فكرة في شعر الطائي (وهذا ليس عيباً جمالياً بالضرورة) في حين يغذّ المتلقّي الخطى في شعر أبي الطيب بحيث تكاد كل كلمة تشدّه إلى الأخرى وكل بيت يقذف به منتشياً إلى ما يليه دون أن تستوقفه كلمة مهما تبلغ من الوحشية أو صورة مهما تبلغ من الغرابة (وهذه مزيّة جمالية بالضرورة).
احتشاد القصيدة أو البيت الواحد بالمحسّنات البديعية ليس مزيّة في ذاته، فالعبرة بطبيعة المحسّنات وطريقة إيرادها، وهذا ما يجعل أبا الطيب بارعاً على هذا الصعيد من حيث روعة صوره البديعية، والأهم من حيث اندماج تلك الصور اندماجاً تلقائياً في أبيات القصيدة بحيث تصبح جزءاً طبيعياً من دفقتها الشعرية المنسابة لا قِطَعاً محشورة حشراً أو مركّبة تركيباً في نسيج شعري مكتمل.
وإذا اختلف النقاد في بيت الوأواء الدمشقي (المنسوب أيضاً إلى يزيد بن معاوية): وَأَمْطَرَتْ لُؤْلُؤاً مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ * وَرْداً وَعَضَّتْ عَلَى العُنَّابِ بِالبَرَدِ، فرآه البعض خارقاً لتسجيله رقماً بديعياً/بلاغيّاً قياسيّاً بتشبيهه خمسةً بخمسة، ورآه آخرون مزعجاً باحتشادٍ بديعيّ زائد على الحاجة؛ إذا اختلف النقاد في بيت الوأواء هذا فإن من الصعب أن يجد الاختلافُ سبيلاً إلى ذائقات نخبوية أو أخرى شعبية حول بيت المتنبي الشهير الذي شكّل صدُره كاملاً مع عَجُزه كاملاً طباقاً، كلمةً مقابل كلمة على الترتيب، وبذات رقم الوأواء القياسي: أَزورُهُم وَسَوادُ اللَيلِ يَشفَعُ لي * وَأَنثَني وَبَياضُ الصُبحِ يُغري بي.
مجملاً، يستعصي أبو الطيب على التصنيف من حيث الانتساب إلى أيٍّ من المدرستين منفردةً: الطبع أو الصنعة؛ وذلك من دواعي فرادة الشاعر العظيم، فهو امتزاج سامٍ للمدرستين معاً، صانع ماهر لا تتعدّى دقّةُ حرفيّته على نقاء سجيّته الشعرية.
المتنبي – وأرجو أن يجوز التعبير - مطبوعٌ في صنعته البديعية، وذلك أسمى ما يناله شاعر في مقام المفاضلة بين المدرستين الشهيرتين.