"اكذبْ" ليست خياراً مثلما رأينا بتفصيل في كتاب "نحن الممثلين"، فنحن جميعاً نمارس الكذب بالضرورة بأشكال ودرجات متفاوتة كل يوم، بصرف النظر عن جرأتنا في النظر إلى ما نمارسه من كذب وما نطلقه عليه من مسمّيات ملطّفة بحسب ما يستدعي السياق؛ والسياق ليس عابراً بالضرورة، فأخطر سياقات الكذب/التمثيل في كل زمان ومكان هو ذلك المتصل الذي ينبني على أسس مبدئية من هذا القبيل أو ذاك. المبادئ بصفة عامة لا تتعمّد الكذب، لكنها – جميعاً تقريباً – تصطدم بمتناقضات الحياة التي تضطرها إلى الالتفاف على الحقائق - اللانهائية من حيث العدد والمتباينة/المتضاربة/المتناقضة من حيث طبيعتها – لإثبات أن حقيقتها التي تنادي بها هي وحدها الجديرة بالاتّباع.
كذلك، فإن "لا تكذب" في المقابل ليست خياراً، فنحن عندما نتحاشى الكذب ونقول/نفعل الحقيقة لا نقوم بذلك دوماً لأننا نريد أن نتحلّى بالقيم المثالية بل غالباً لأنه لا يكون ثمة وقتها ما يستدعي أن نكذب من أجله. والحال كتلك، يوشك الصدق أن يكون الأصل الذي تتكالب عليه محرّضات النفس الأمارة بالسوء فتمتحنه امتحانات ليس في وسعه أن يخرج منها سوى بأقلّ الخسائر كل مرّة.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: جناس المتنبي وطباقه
الصدام حتمي إذن، ليس على صعيد "اكذب ولا تكذب" فقط، وإنما بما يشمل كل "افعل ولا تفعل" في هذا الكتاب؛ فاستجاباتنا بالتأرجح أمام متناقضات الحياة تبدو أمراً لا مناص منه على اختلاف الدواعي والأشكال والمستويات.
كم مرة نكذب في اليوم؟ سؤال يُقال إن أغلبنا لا يقوى على مواجهته بما يلزم من الشجاعة، وإذا جرؤ البعض على المواجهة فالأرجح أن ذلك لا يتمّ بما يكفي من عتاد الشجاعة، فمساحة كذبنا اليومي أكبر من أن تذرعها أنفسنا دون أن تتقطّع أنفاسنا ولا نحيط بها في كل الأحوال.
نكذب ابتداءً من "صباح الخير" نقولها في وجوه من نلاقيهم دون أن نتمنّى الخير لكلٍّ منهم بالضرورة؛ ولا يعني ذلك أننا نضمر الشرّ لقدر كبير من الناس، ولكننا غالباً نحتفظ بشعور محايد تجاه أغلب الناس ونرجو عميقاً الخير – بما يصل إلى درجة الدعاء كل صباح – فقط ضمن دائرة ضيقة من المقرّبين الأعزاء. ما بعد "صباح الخير" من المجاملات العميقة (تعبير ملطّف للكذب/التمثيل) كثير ومتداخل بما يعكس إقرارنا بالحرص على تمرير شؤون حياتنا اليومية بأعلى ما يمكن من المرونة تجنّباً لاحتكاكات من شأنها أن تعرقل مصالحنا جميعاً.
أمّا ما يتعلق بما قبل "صباح الخير"، فإننا نمارس كذبنا فور أن نستيقظ صباحاً فنعمد إلى ترتيب هيئتنا وارتداء ملابسنا ووضع ما يلزم من الزينة نساءً ورجالاً كلّاً بحسب طبيعته الشخصية وشروط المجتمع حول القدر المسموح/المفضّل من الزينة. نخرج إلى الشارع إذن بهيئة نقدّم أنفسنا بها إلى الناس ونحن نطمح إلى قبولهم واستحسانهم، هيئة ليست في الواقع هيئتنا الحقيقية، سواء تلك التي نصحو بها بعد نوم عميق أو ما نرتضيه ونحن جلوس في البيت مع العائلة مما لا يخلو بدوره من قدر من التجمّل والتزيّن. لذلك عندما شاعت تطبيقات محسّنات الصور حديثاً بادرتُ الذين عارضوها بسؤال في مزيج من الجدّ والممازحة: أيهما أشدّ وطأة من حيث ممارسة الكذب، ما نضعه مباشرة على أجسادنا من الملابس والزينة أم ما نجمّل به صورنا عبر تلك التطبيقات؟
والحال كتلك، فإن الكذب لا مفرّ منه كما أسلفنا الإشارة في أكثر من صعيد ومقام، وما الجدال إلا على الأقدار والأشكال المقبولة من الكذب ممّا نمرّره تحت مسمّيات ملطّفة عديدة. الكذب المقصود ببساطة هو أي قول أو فعل بغرض حجب الحقيقة المجرّدة أو تغييرها، بصرف النظر عن الدوافع الكامنة وراء القول أو الفعل ومهما تكن درجة الحجب أو التغيير.
لا شيء يمضي بشكل مثالي في الحياة، لذلك لن يكون بدعاً أن نكذب؛ فالتحدّي أساساً في أشكال وأقدار الكذب الممكنة بحسب مرجعياتنا زماناً ومكاناً وليس بحال في إمكانية تجنّبه جملة واحدة.
اكذب (جمّل/زيّن) عندما يكون الصدق جارحاً وضرره أعمق من نفعه، شريطة ألّا تجور على أحد أو على حق عام بحجبك الحقيقة أو تغييرها بأيٍّ من الأقدار والأشكال.
إذا كنت مصرّاً في المواقف الحادّة على قول/فعل الحقيقة المجردة فلا بأس، ولكن من الضروري حينها أن تكون منتبهاً لعواقب الصدق القاسية.
لا تكذب لمجرّد أن تجني مكاسب يمكنك جنيها على كل حال وأنت صادق ببعض العناء، فالخسارة العابرة مع الصدق عادةً ما تعود ربحاً عظيماً على الأمد الطويل.
الأهم في معالجة معضلة الصدق والكذب، مثلما هو حالنا مع كل فعل ونقيضه، هو ألّا نخجل من أنفسنا عندما نضبطها متلبّسة بممارسة طرف النقيض المذموم إلّا إذا أصبحت تلك الممارسة عادة. وحتى لا نخجل من أنفسنا في أي مقام ونحن نعالج استجاباتنا حيال متناقضات الحياة، علينا أن نحدّد ابتداءً القدر الذي يمكننا الصمود عليه من المبادئ والمُثُل، ثم لا حرج بعدها – بل لا بدّ – من إعادة ضبط ذلك القدر بحسب رؤيتنا المتجددة للوجود وعلى قدر ما أصبح في حوزتنا من الخبرة لإنزال أفكارنا السامية إلى الأرض بسلام.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])