ينطوي العنوان على مفارقة زمانية واضحة، فالمتنبي وُلد بعد نحو خمسة وستين عاماً على وفاة أبي تمام، والمفارقة المتعمّدة بطبيعة الحال هي مدار هذا المقال، وذلك في ظلال حالة تأثُّر خيالية/افتراضية استناداً إلى نبرة صاخبة وسَمَتْ المتنبي وشعره على صعيد الاستعلاء العرقي والاعتداد بصفة عامة؛ وإن يكن أبو الطيب أشدّ اعتداداً بنفسه وليس بقومه العرب ابتداءً، واعتداده وعرقيته كانا يطفحان عندما تُمَسّ مصلحته الشخصية وليس بسبب جرح قومي أو مواجهة ينتصر فيها العرب على غيرهم من الأمم.
ترجّح الروايات أن أبا تمام كان طيّب الخلق سمحاً، وهو أمر لا يكذّبه شعره الذي حُوكم لغوياً وأدبياً أكثر مما حوكم أخلاقياً، بل لعله لم يحاكَم أخلاقياً البتّة؛ والمحاكمات الأخلاقية في تاريخ الشعر العربي لها خصوصيتها على كلّ حال، فقد أفلح الشعر في أن ينفرد بمرجعياته الأخلاقية لدى العرب إلى حدّ بعيد، بل في أن يؤسس مساراً أخلاقياً أرجو أن يجوز وصفه بالمسار الموازي على صعيد القيم، ولا يعني ذلك أنه أسس قيماً مستقلة بقدر ما يعني أنه أتاح لبعض (أو كثير من) الأنماط الأخلاقية غير المعلنة أن تنبسط في حياة العرب بدرجات متفاوتة من القبول والتسويغ. بذلك لم يكن الشعر لدى العرب مجرد مرآة تعكس حياة الأمة الظاهرة بل مِجهراً ضخماً عاليَ الدقة يكشف خبايا تفاصيل تلك الحياة ويضفي على تجاوزاتها قدراً معتبراً من الشرعية في الوقت نفسه.
قصيدة أبي تمام في معركة عمورية الشهيرة ملهمة على أكثر من صعيد نقدي، وبرغم أنه يلمز في أوّلها المُنجّمين تحديداً فإن المقابلة الحرفية تمنح انطباعاً بتفوّق السيف (الفعل) على الكُتب (التنظير) بصفة عامة، ويزداد الانطباع تعمّقاً في الشطر الثاني من أول أبيات القصيدة مع التلميح (وربما التصريح) بترادف السيف والجد مقابل ترادف الكتب واللعب.
سمعت عالمنا الجليل عبد الله الطيب قبل نحو أربعة عقود يذكر عن بعض النقاد القدامى – على الأرجح - أنه برغم شهرة المتنبي الطاغية وتطبيق قصائده آفاقَ الأدب العربي فإنه لم تبلغ قصيدة منفردة له من الشهرة ما بلغته قصيدة أبي تمام في معركة عمورية. والمقارنة بين القصائد والأبيات – سواء من حيث الجودة أو الشهرة – مثار لجدال ليس من السهل الوصول فيه إلى رأي مجمل، وإن تكن شهرة قصيدة عمورية منقطعة النظير هذه ليست محل خلاف على كل حال.
ما الذي منح "السيف أصدق إنباءً من الكُتب" هذه الشهرة الطاغية والمكانة الفريدة في وجدان محبي الشعر من العرب على مرّ العصور؟ القصيدة اشتملت على خصائص شعر أبي تمام المعروفة وأبرزها عنايته الفائقة بالبديع واجتهاده في توليد المعاني من رحم الألفاظ والتراكيب اللغوية المعقدة في غير قليل من الأحيان؛ ولم تخلُ الأبيات العظيمة – في معرض تمثيلها النموذجي لشعر حبيب بن أوس – من بعض سقطاته البلاغية على نحو ما فعل مثلاً عندما عطف "الخشب" على "الصخر" وقد خضعا لذلّة النار، ومكمن العيب البلاغي/المنطقي أن الصخر إذا خضع لسطوة النار فليس غريباً أن يخضع لها الخشب الأوهي من الصخر؛ وبرغم أن الواو لا يفيد الترتيب بالضرورة في كلام العرب فإن من الصعب تجاوز النقاد عن دلالة الواو التراتبية في سياق البلاغة الشعرية تحديداً.
وبرغم ما أشرنا إليه بوصفه تمثيلاً نموذجياً لقصائد الرجل من حيث تضمّن خصائصه الشعرية مجتمعةً تقريباً، فإن ما حلّق بالقصيدة في عنان الوجدان الشعري العربي شعبياً ونخبوياً هو ما انفردت به لا نقول عن سمات شعر أبي تمام فحسب وإنما عن المعروف من حسّه الإنساني الميّال إلى السلاسة الوداعة بصفة عامة.
استهلّ الشاعر رائعته بـ"السيف"، لتضج القصيدة منذ كلمتها الأولى حتى الأخيرة دون انقطاع بنبرة هادرة من الزهو بالإنجاز الفريد والشماتة في العدوّ المنهزم وتفيض بصور متلاحقة لاستعار معركة حامية الوطيس أفلحت في أن تُخرج من الشاعر الوديع ما استقر في بعض أعماق عقله الباطن من العنف الصاخب الذي بدا مشروعاً في خضم الاحتفال العظيم بـ"فتح الفتوح" الذي تعالى على الشعر والنثر (ضربة أخرى مباشرة هذه المرة انتصاراً للسيف على القلم).
غير أن ما منحه المتنبي – على سبيل افتراضنا الخيالي الذي أشرنا إليه مفتتح هذا المقال – أبا تمام من أسرار ذيوع القصائد كان تحديداً الاعتزاز العرقي العربي/العروبي، بل – بقدر أعلى من الدقة – العرقية/العنصرية المستفزة للحميّة العربية التي تبدو دوماً في حالة استعار وتحدّ. فإذا أمكن تبرير الابتهاج العارم بالفتح العظيم من منظور ديني لا يخفى بحال، على نحو ما في العديد من الأبيات الدالة على ذلك دلالة مباشرة من قبيل: "أَبقَيتَ جَدَّ بَني الإِسلامِ في صَعَدٍ * وَالمُشرِكينَ وَدارَ الشِركِ في صَبَبِ"، "حَتّى تَرَكتَ عَمودَ الشِركِ مُنعَفِراً * وَلَم تُعَرِّج عَلى الأَوتادِ وَالطُنُبِ"، "خَليفَةَ اللَهِ جازى اللَهُ سَعيَكَ عَن * جُرثومَةِ الدِينِ وَالإِسلامِ وَالحَسَبِ"، "رَمى بِكَ اللَهُ بُرجَيها فَهَدَّمَها * وَلَو رَمى بِكَ غَيرُ اللَهِ لَم يُصِبِ"؛ إذا أمكن تبرير مثل تلك الأبيات استناداً إلى نزعة دينية خالصة – لم يكن الشاعر مشهوراً بها على كل حال - فكيف بخاتمة القصيدة المباشرة في عرقيّتها: "أَبقَت بَني الأَصفَرِ المِمراضِ كَاِسمِهِمُ ** صُفرَ الوُجوهِ وَجَلَّت أَوجُهَ العَرَبِ"؟
باستئذان القارئ في الاستمرار مع الصورة الافتراضية/الخيالية حول فضل المتنبي على أبي تمام، أليست مفارقة عظيمة أنّ صاحب ديوان الحماسة – الذي يدور أهم أبوابه حول أجود أشعار الشجاعة والبطولات والأمجاد لدى العرب - كان بحاجة إلى أن ينظر في المستقبل أكثر من ستة عقود ليقبس أسرار إبداع القصيدة الحماسية التي تسري في الوجدان العربي سريان النار في الهشيم؟
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: اكذب ولا تكذب