عمرو منير دهب يكتب: بين المتنبي ومارادونا

ليس في الشعر وحده وإنما في كل فن وكل مجال ينتظر المبدعُ عادةً رَدَحاً من الزمان قبل أن يدرك حظَّه من الظهور، ومهما يكن تحقّق الشهرة سريعاً فإن المبدع يفوته أن يحتفل بمجده في حضور نفر كان يمنّي نفسَه بابتهاجهم به أو - على النقيض - رؤيتِهم وهم يشاهدون مجده الذي أنكروه عليه من قبل. كذلك، ربما يمنّي مبدعٌ عظيم نفسَه باطّلاع مبدع رائد عاش قبله بقرون على إبداعه الذي تجاوز إبداع ذلك الرائد العظيم، وهي أمنية مستحيلة بحساب الواقع، لكن أهي كذلك بحساب الخيال؟

أشرت من قبل في مقام مستقل إلى أن كل ما أمكن تخيّله من الممكن تحقيقه؛ فقط ما لم نجرؤ على تخيّله غير قابل للتحقّق إلى أن يصبح متخيَّلاً. هذا بدوره جموح في الخيال ينظر إليه الواقعيون بوصفه أمراً مستحيل التحقق في حين يراه أضدّادهم من المؤمنين بالخوارق ممكنَ الحدوث على أكثر من وجه؛ وما لا يمكن إنكاره في كل الأحوال هو ما يخالج نفسَ الشاعر العظيم – أيّ شاعر عظيم - من أفكار التفوّق على مَن سبقوه من الشعراء الكبار وأحلام التربّع الأبديّ على عرش الأدب بالنظر إلى الشعراء المتميزين القادمين؛ وإذا كانت أمثال تلك الخواطر مما لا يسلم من آثاره مبدعٌ مُجيد فإن المبدعين الاستثنائيين في كل مجال أكثر عرضة لأن تطرقهم تلك الخواطر/الهواجس وتعاود طرق وجدانهم المرة تلو الأخرى في إلحاح عظيم.

على صعيد مستقل بعيد عن مقامنا الشعري هذا، لم يكن يَدُرْ بخَلَد الأسطوري دييغو مارادونا أنّ لاعباً يمكن أن يعلوه في المكانة الكروية، سواء من حيث الموهبة أو الإنجاز والتأثير؛ وكان اللاعب الأرجنتيني الكبير يرى أنه تجاوز إنجازَ سلفه الأسطوري بيليه بما لا يدع مجالاً للشك؛ غير أن الأقدار لم تمهل مارادونا طويلاً - مع ذلك التقييم الذاتي غير المجمع عليه - فداهمته بما أفسد عليه اطمئنانه إلى الانفراد بقمّة الإبداع الكروي على مدى التاريخ، وكانت المفاجأة المضاعفة أن الأسطورة التي ستزاحمه من بلاده، فظل ماراودنا متأرجحاً حيال ليونيل ميسي، لا يتسنّى له أن يمتنع تماماً عن الإشادة به ولا يملك نفسه في الوقت ذاته فيكفّ عن لمز النجم الخارق من طرْف خفيّ عندما يُسأل عنه، فظلّ مارادونا محلَّ هجوم من قبل كثيرين لأنه ينتقد ميسي في تصريحاته ثم ينهال عليه بالثناء والأحضان كلّما قابله، ما يشي بأن مارادونا كان بالفعل متوجّساً من أن ينتزع ميسى أسطوريّته التي مَنَّى نفسه بأبديّتها. وبرغم أنني أرى أن مارادونا – سواء من حيث الموهبة أو الإنجاز والتأثير – لا يزال أرفع مكانة من ميسي، فإن كثيرين من عشاق الكرة يرون أن الأخير هو أسطورة كرة القدم الأسمى في تاريخ اللعبة.

بالعودة إلى الشعر مع المتنبي تحديداً، فإن شاعرنا العظيم لم يكن يرى نفسه أفضل الشعراء فحسب وإنما أفضل الناس، بل أفضل الكائنات قاطبة:

أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي ** أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي

وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ الــــلــــهُ وَما لَم يَخلُقِ

مُحتَقَرٌ في هِمَّتي ** كَشَعرَةٍ في مَفرِقي

وإذا كان ما سبق يبدو مبالغاً فيه بوضوح، فإن ديوان الشاعر العملاق وسيرتيه الأدبية والشخصية (والسيرتان متداخلتان إلى حد الامتزاج بما شكّل دراما حياته الفريدة) تضجّ بالأمثلة الشاردة على اعتداده منقطع النظير بنفسه شاعراً وإنساناً. وعندما يقول الرجل مثلاً: تَغَرَّبَ لا مُستَعظِماً غَيرَ نَفسِهِ ** وَلا قابِلاً إِلّا لِخالِقِهِ حُكما، فإن تلك بصورة موازية - وإن تكن إشارة مؤكِّدة لما نقوله عن رؤيته لنفسه بوصفه الأعظم بين الشعراء والخلق قاطبة - من الحالات النادرة التي تبرز خلالها بعضُ الإشراقات الإيمانية من رجل لم يُعرف عنه في الغالب شيء من الورع في أيٍّ من المقامات؛ وربما أملى السياق الشعري – أو الاستجابة للمزاج العام من حوله - تلك الصيغة على الشاعر المتعالي عادةً على كل شيء دون استثناء أو تحفّظ.

وأمّا قوله مخاطباً سيف الدولة ومُقرّاً في النهاية بمكانة النابغة الذبياني، فإنه لا ريب مما اقتضاه السياق، سياق التزلّف – حبّاً وكرامة – لسيف الدولة وليس الامتنان بحال للشاعر الجاهلي العظيم:

رَأَيتُكَ توسِعُ الشُعَراءَ نَيلاً ** حَديثَهُمُ المُوَلَّدَ وَالقَديما

فَتُعطي مَن بَقى مالاً جَسيماً ** وَتُعطي مَن مَضى شَرَفاً عَظيما

سَمِعتُكَ مُنشِداً بَيتَي زِيادٍ ** نَشيداً مِثلَ مُنشِدِهِ كَريما

فَما أَنكَرتُ مَوضِعَهُ وَلَكِن ** غَبَطتُ بِذاكَ أَعظُمَهُ الرَميما

وعلى غير ما رأينا مع دييغو مارادونا وسيرته مع ليونيل ميسي، ارتداداً إلى مقارنة ملهمة مع حالة إبداع رياضي كروي مغايرة تماماً، كان من حظ المتنبي أن يتربّع على عرش الشعر العربي التقليدي لحوالي ألف عام قبل أن يبرز إلى الوجود الأدبي أحمد شوقي الذي - وإن كنت أراه مستحقاً للانفراد بعرش الشعر العربي التقليدي من الناحية الفنية الخالصة - لم يُقصِ شاعرنا أبا الطيب العظيم عن عرش الشعر العربي من حيث التأثير وبالنظر إلى السيرة الإنسانية الملهمة على نحو استثنائي فريد؛ وذلك على كل حال حديث ذو مسالك معقدة طرقناها من قبل وربما نعود إليها في مقام لاحق.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: أبو تمام على خطى المتنبي