منذ عدة أيام، أعلن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، عن عدد من التوصيات الخاصة بمبادرة التنظيم الذاتي للإعلام، وكان أكثر ما يسترعي الانتباه فيها البنود الخاصة بتحجيم ارتجال المذيعين في القضايا المُثارة في برامجهم خاصة "التوك شو"، وعدم تحولها لمنابر تخدم أفكار وتوجهات مقدميها على حساب حق الجمهور في إعلام حيادي ومتزن.
مبادرة التنظيم الذاتي للإعلام والتي تسعى إلى تعزيز المسؤولية والمهنية في وسائل الإعلام المختلفة من خلال وضع معايير وأخلاقيات مهنية يتبعها الصحفيون والمؤسسات الإعلامية، وضعت يدها على جرح عميق، عانت منه البرامج المصرية خلال سنوات طويلة، طعنت فيها ثقة المشاهد في الصحافة والإعلام، وفي الوجوه الشهيرة التي تطل عليهم في منازلهم لتخبرهم بآرائها الشخصية بدلًا من ترك الحكم له في القضايا التي تخصه هو في الأساس.
ولعلنا في حاجة إلى استرجاع بعض المشاهد المُثبطة، التي تحولت إلى ترند ينهش في أحد أهم أسلحة بناء الوعي المجتمعي؛ الإعلام، والذي كانت نشأته في الأساس ترنو إلى مجتمعات يقظة ومبصرة بحقوقها وأحداث مجتمعها، مما يساهم في تشكيل الرأي العام.
وعلى سبيل المثال، في واقعة قريبة، لم تغب عنها الذاكرة المجتمعية، أثار إعلامي شهير، سخطًا كبيرًا وغضبًا جمًا بسبب رأيه المبتور من الحقائق العلمية، حيث هاجم فروع من العلوم وصفها بأن لا فائدة منها، وذلك بعد فهم خاطئ أو تفسير غير حذق لقرارات وزير التربية والتعليم الجديدة، مما وضع الوزارة نفسها في مرمى اتهامات الجهل، ليخرج بعد ذلك ويعتذر عما بدر منه ولكن ما فائدة الاعتذار بالإكراه؟ إكراه الخوف من العزوف عن مشاهدة برنامجه ومقاطعته؟
في الواقعة المذكورة، لم يكن الوزير الحكومي الضحية الوحيدة لرأي الإعلامي الشخصي، بل أيضًا كان أصحاب التخصصات الذين همش دورهم الإنساني والمجتمعي الهام لدى الشعوب، ولكن كان الوعي المجتمعي أكبر من الإصغاء لهذا الهراء، فاستطاع مهاجمته والدفاع عن علوم إنسانية ساهمت بما لا شك فيه في بناء الحضارات الإنسانية على مر العصور، ولكن! قبله بعدة سنوات في مطلع الألفية الجديدة، كان هناك حادثة شديدة الأسف حيث هاجمت إعلامية شهيرة في برنامجها فتاة تم التحرش بها، وبدلًا من إلقاء اللوم على المتحرش، هاجمت الفتاة قائلة "إيه اللي وداكي هناك؟!" ليكن التساؤل الأهم من الجمهور للمذيعة: "إيه اللي جابك هنا؟" وكيف لو تقبل الجمهور وتشكل وعيه على ذلك الرأي المتطرف؟ وبدأ في لوم الضحية أي ضحية سواء كانت تحرش أو قتل أو غيرها؟ الجدير بالذكر أن المذيعة نفسها لا تزال تعمل في أحد القنوات المغمورة، وتبدي آراء مشابهة فمن يوقفها سوى قانون تنظيمي لمثل تلك المواقف؟
بالعودة مرة أخرى لوقتنا الحاضر، وقبل شهر واحد شهد أحد لاعبي كرة القدم المتقاعدين والذي اتجه للعمل الإعلامي في برامج رياضية، تهكم على لاعب شاب توفي، ورمى عليه اتهامات باطلة، تسببت في إيقافه القرار الذي استقبله الجمهور باحتفاء كبير كعقاب له على إبداء رأيه غير المدروس والبعيد تمامًا عن المهنية.
تلك الأمثلة ليست الأولى ولا الأخيرة، فكان بينهما الكثير من المواقف المشابهة، مما أثار غضب الجمهور، الذي تسائل ما هي مهمة مقدمي البرامج؟ هل هو إبداء رأيهم؟ أم نقل الحقائق بحيادية؟ بما يلبي احتياجاتي كمشاهد؟
ولعل إجابة السؤال السابق له أوجه عدة يمكن النظر في التجارب العالمية للإلمام بها، فمثلًا في الولايات المتحدة الأمريكية، جرى العُرف على إتاحة مساحة كبيرة من الحرية لمقدم البرامج في إبداء رأيه كيفما يشاء، مما يتناسب مع توجهات الدولة نحو الحريات المطلقة، ولكن هل نجح الأمر؟ أو لنكن أكثر دقة في السؤال؟ هل أتاحت القنوات الأمريكية الحرية للرأي الشعبي من خلال المذيعين؟ أم منحت المذيعين الحرية في الترويج لمصالحهم الشخصية؟ سنجد الإجابة جلية في مواقف الإعلام الأمريكي خلال العام الماضي فقط، سواء بالترويج إلى مرشحين رئاسيين بعينهم، بما يتناسب مع مصالح القنوات والمذيعين والأحزاب السياسية، أو طمس حقائق لا يريدون الحديث عنها كمجازر قطاع غزة.
الوجه الثاني أو التجربة المختلفة، نجدها في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، حيث يتمتع الإعلام بتقاليد طويلة من الحيادية، وتفرض هيئة تنظيم البث "أوفكوم" قواعد صارمة تضمن التزام المذيعين بالحياد في البرامج الإخبارية والتوك شو. تهدف هذه القواعد إلى الحفاظ على ثقة الجمهور في وسائل الإعلام ومنع التحيز في تغطية القضايا المختلفة.
وفي ألمانيا، توجد قوانين مماثلة تحظر على المذيعين التعبير عن آرائهم الشخصية في البرامج الإخبارية. يعتمد الإعلام الألماني على نظام يضمن أن تكون الأخبار والبرامج الحوارية محايدة وتستند إلى الحقائق، دون تدخل من آراء المذيعين الشخصية، أو ارتجالهم الشخصي.
في التجربة الأمريكية، تم الاعتماد على وعي الجمهور في فلترة ما يتلقاه عبر الشاشة الصغيرة، وقد نرى أن الوعي الشعبي الأمريكي كان أكبر مما يتلقاه من المذيعين، خاصة في الجمهور الأصغر سنًا من الجيل Z الذي رفض التأثر بما يسمعه عبر القنوات التلفزيونية، لأنه جيل السوشيال ميديا، حيث بات وعيه منفتحًا أكثر على ثقافات وروايات أخرى بعيدًا عن أفواه المذيعين.
أما في التجربة البريطانية والألمانية، فكانت أكثر أمانًا، حيث مُنح الجمهور حقه في المعرفة دون التأثير عليه، ومنحه مطلق الحرية في تشكيل وعيه الشخصي تمامًا بناء على المعلومات التي تم تغذيته بها.. ودعونا نتسائل أيهما يفضل المجتمع المصري اليوم؟ التوجيه والتلقين أم حرية التفكير والحكم على الأمور؟