قد يتعجب أحدهم من بضع أناس يجلسون أمام فنجان قديم يتزايدون على من يقتنيه ويفوز به مهما كلفهم الأمر متسائلين لم؟ غير مدرك لقيمته التي اكتسبها مع الوقت، تلك القيمة التي حتما لم يتخيل صانعه ومالكه قبل عشرات أو مئات السنين أنه سينالها مع نجاته عام خلف عام من عوامل الزمن!
قبل عامين شاهدت إعلانا أثار الكثير من الخيالات والقصص في ذهني، رجل يبحث عن طقم روميو وجوليت الشهير، الذي لم يخلو منزل لأجدادنا منه، ووضع أمامه مبلغا ضخما وصل إلى ما يزيد عن 500 ألف جنيه حتى لو لم يكن كامل القطع أو مكسورة أجزائه.. لماذا كل هذا المبلغ؟ هل يقدمه صاحبه ثمنا لطقم صيني بقيمته التاريخية؟ أم لذكريات يبحث فيها عن نفسه وأحبائه أو ماضٍ تمنى لو كان جزءًا منه؟!
تلك الاحتمالات نفسها التي تفسر تفاعل الجمهور مع مسلسل «عمر أفندي»، الذي أزفت أحداثه على النهاية، تاركَا خلفه الكثير من الحنين والسعادة والمتعة، ليس فقط لأنه عمل جيد الصنع لكن لأنه أخذ متابعيه لغفوة بعيدا عن أيامهم السريعة المادية المليئة بالضغوطات والسلبيات التي قد يراها أجيال لاحقة مميزات ينظرون لها بحنين كما ننظر نحن لـ«عمر أفندي» بشخصياته وملابسه وحتى الشوارع والمباني التي يمر بها، إلى زمن لم نرى منه سوى براءة «دياسطي» الخاطفة للقلب وخفة دم «زينات»، وحتى دناءة «شلهوب» الواضحة والصريحة دون تلون أو تملق كما يفعل أشباهه اليوم.
عندما يدخل عمر أو علي النفق، ويغادر همومه ومشكلاته الألفية، ندخل معه إلى التاريخ الذي نهرب من دراسته وحفظه في المناهج الدراسية، لكننا نسعد جدا بمشاهده في الأعمال الفنية لأنها تنقلنا إليه بسلاسة، فتبحث عن أصل كلمة «الأسبتالية»، و«الماني فاتورة»، و«اللحلوح»، وتشاهد عصر «عمر أفندي» المحل و«البراند» المصري الأصيل، وترى بعينك كيف تغيرت مفرداتك وملابسك وأحلامك كمواطن مصري عبر التاريخ.
فالماضي غالبًا ما يُصور على أنه زمن بسيط وهادئ، لذا فالانتقال له يجذب الجمهور الذي يبحث عن ملاذ من ضغوطات الحياة اليومية، بل هو أكثر أمانا من الذهاب إلى المستقبل، لمخاطر الغد غير المرئية، فاللعب في المعروف مسبقا أكثر راحة، خاصة لو اختلط بشعور داخلي بتغيير المستقبل بقرار مثل شراء عمر لقطعة أرض باسم الجد تُمكنه من مساومة زوجته وحماه في المستقبل.
تلك الأرض التي ازدادت قيمتها أضعاف مضاعفة بالتقادم كرسوماته تماما، فهو نفس الفنان وهي نفس الموهبة، إلا أن للتاريخ سحره الذي يُثقل به كل شيء مر عليه. حتى على الشخصيات، مما يفسر أيضا محبة الناس لشخصية«دياسطي» تحديدا وتأثرهم به، على الرغم من أن أشباهه الآن قد يوصمون بأنهم «بُلهاء». وهذا لا ينفي أبدا نضج موهبة مصطفى أبو سريع مقدم الشخصية وذكاء اختياراته الفنية في الآونة الأخيرة، لكن الجمهور أحب «دياسطي» بشدة الـ«خارج من الأربعينات»، لأنه شخصية بسيطة لا تحمل تعقيدات شخصيات 2024.
ومن جهة أخرى قدم شخصية الألفية الحديثة «شخصيتنا» العادية، التي لا تمتلك في عصرنا أي مميزات مادية ملموسة على أنه بطل في زمن سابق، بطل يراه «دياسطي» زعيمًا ورفيقًا ساحرًا، لديه من الشجاعة أن ينادي «أحلام» ويخبرها بحب «دياسطي» بجرأة تكسر خجل الأربعينات. مع تصوره أنه بطل مقاوم للإنجليز وإن كان ذلك غير حقيقي، لكن شخصيته الأكثر ثقة وقوة توحي بذلك.
المسلسل غزى ببساطة داخلنا الشعور الذي وصفه من قبل الفنان مدحت صالح «أنا عايز أعيش في كوكب تاني»، لكننا هنا اكتفينا بمجرد زمن آخر، وجدنا فيه اختلافات بسيطة بين البشر، ونزاعات أقل شراسة من الآن حتى مع وجود الاحتلال، إلا أنها صراعات منتهية «كده كده» وأناسها تستطيع الشخصية الألفية المتجسدة في «عمر» ومن قبله والده «تهامي» التغلب عليها ببساطة مهما كان شرها مثل «أباظة»، أو مكرها مثل «شلهوب»، أو حتى فسوقها مثل «لمعي».
في النهاية «عمر أفندي» عمل فني قدم للمشاهدين قطعة «أنتيك» زايدوا عليها، وفي عصر السوشيال ميديا، فالربح بالترند والمشاهدة، والجمهور الشاري «الغاوي» للماضي والنوستالجيا.
نرشح لك:
بعد نجاح المسلسل.. حكاية "عمر أفندي" الحقيقي
نرمين جودة تكتب: علي تهامي يجد ضالته في عمر أفندي!
عمرو عز الدين يكتب: بسبب "عمر أفندي".. رحلة بحث مثيرة وراء طقطوقة "يا نواعم يا تفاح"