يُذكَر البحتري ابتداءً على أنه شاعر الألفاظ والتعابير المتدفقة في عذوبة وجمال وسلاسة، وهو مستحق لتلك السمعة الأدبية لا ريب، وإن يكن محظوظاً بسموّ تلك السمعة إلى درجة أن بات شعره مجملاً يُوصف بسلاسل الذهب؛ وتلك على الأرجح أرفع سمعة يتطلّع إليها شاعر عربي بالنظر إلى غنائية الشعر العربي القائمة على بحور موسيقية من أنماط شتى لا تنضبط إلا بالانتباه الدقيق إلى الحركة والسكون في كل حرف من كل كلمة في كل بيت من القصيدة.
والانتباه إلى الحركة والسكون هذا هو ما يميّز شاعراً عن شاعر، فالضبط "الآلي" للتفاعيل ممكن لكل من يتوق إلى نظم الشعر تقريباً، لكن الشاعر الأصيل هو من تجري معه التفاعيل منضبطةً بشكل تلقائي أو شبه تلقائي؛ أمّا الشعراء المجيدون فلا يكتفون بتلقائية الانضباط العَروضي وإنما يزيدون عليها مراتب في مقام الاهتمام بتناغم الألفاظ والعناية بانسجام دلالاتها المعنوية واللفظية وما إلى ذلك من تفاصيل بالغة الكثرة والتشعُّب؛ يحدث ذلك بمزيج من الطبع والصنعة بحسب موهبة كل شاعر. وأمّا الشعراء الكبار ممّن اشتهروا بعذوبة ألفاظهم وسلاسة تعابيرهم فيبلغون حدّاً مدهشاً في اللعب بالألفاظ من حيث اختيار اللفظة الواحدة التي لا تحلّ محلها لفظة أجمل أو أنسب منها في مقامها من البيت الشعري، ثم سبك الألفاظ مجتمعةً فيما يغدو جديراً بأن يُشبّه بسلاسل الذهب، والبحتري هو أشهر شعراء العرب على هذا الصعيد، بل إنه المستبدّ بالتشبيه (سلاسل الذهب) دون غيره من الشعراء الكبار المجيدين على امتداد صفحات ديوان شعرنا العربي.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: بين المتنبي ومارادونا
ولكن الشعر لا يقوم بلفظ دون معنى، وعليه فإنه مهما يكن الشاعر بارعاً في السيطرة على الكلمات واللعب بها لا ينجُ من ضرورة الاهتمام بالمعاني الرفيعة إذا كان يتطلّع إلى أن يكون شاعراً رفيع المقام؛ والبحتري – الذي هو لا ريب رفيع المقام في بلاط الشعر العربي– لم تكن معانيه الشعرية أدنى من ألفاظه قيمةً، وذلك بالانتباه إلى أن المقصود بالمعاني الشعرية ليس الحكمة والجوانب الفكرية الخالصة فحسب، فالمعاني في الشعر تشمل الصورَ البديعية المعنوية والأنماط البلاغية بصفة عامة، ذلك أن معاني الشعر ليست معاني الفلسفة والفكر تطابقاً، وإنما هي استلهام للفكر والفلسفة من حيث يدري الشاعر أو لا يدري، وبحيث تنعكس الومضات الفلسفية والإشراقات الفكرية العميقة متجلّيةً في قالب شعري باهر تزينه الألفاظ المُطرِبة موسيقاها وترصّعه الصور البلاغية الموحية من كل قبيل.
وإذا كنّا قد رأينا عند قراءة "جناس المتنبي وطباقه" في مقام المقارنة مع أبي تمام أن أبا الطيب "يبدو شاعراً مهموماً بالفكرة والمعنى يتّخذ الكلمات سبيلاً إلى إبراز ما يريده من الأفكار والمعاني ولا يميل إلى الإسراف في تزيين كلماته على نحو ما كان يفعل سلفه الطائي"، فإن من باب أولى أن يبدو المتنبي أقلّ انصرافاً إلى تزيين ألفاظه قياساً إلى البحتري؛ ولكن – في المقابل - ماذا عن معاني البحتري المجردة؟ وحديثنا هذا أساساً للنظر في مقامين معنويّين مقارنةً بين المتنبي والبحتري.
مقاما مقارنتنا هنا بين الشاعرين الكبيرين ليسا معنويين فحسب، بل إنسانيّين بدرجة كبيرة. الشاعران خالصا العروبة من حيث الانتماء، لم يُشكَّك في نسبهما العربي على نحو ما حدث مع ثالثهما أبي تمام الطائي، وإن تكن الروايات الأكثر تداولاً ترجّح عروبة الأخير أيضاً. برغم ذلك، أو ربما لذلك، نتأمّل هاهنا شاعرينا وهما يقفان أمام معجزتين جماليتين غير عربيّتين، واحدة طبيعيّة خالصة والأخرى من صنع البشر؛ نقف بداعي التأمّل النقدي لا المحاكمة السياسية - أو حتى الاجتماعية - بحال.
إذا كان انتماء المتنبي العربي/العروبي سمة بارزة في شعره، فإن ولاءه الذاتي (ولاءه لنفسه) هو السمة الأبرز في شعره لا ريب. ولكن مهما يكن، ظل المتنبي على تجواله خارج الآفاق العربية الصرفة منحازاً إلى ما هو عربي خالص، بل لم يكن تقريباً يرى منجزاً غير عربي جديراً بأن يفتن لبّه. أقام بمصر فهجا أنماط عيشها أكثر مما مدحها، ولعله لم يمدحها أبداً بجميل من المعاني ذي بال؛ وكان أقصى تأمّلاته أمام واحدة من عجائب الدنيا المصرية البارزة (ونتجاوز لمزه: ومصرُ لعمري أهل كلِّ عجيبَةٍ) أنْ وقف يذكِّر بزوالها الذي سيدركها ولو بعد حين:
أَينَ الَّذي الهَرَمانِ مِن بُنيانِهِ ** ما قَومُهُ ما يَومُهُ ما المَصرَعُ
تَتَخَلَّفُ الآثارُ عَن أَصحابِها ** حيناً وَيُدرِكُها الفَناءُ فَتَتبَعُ
وعندما خلبه شِعبُ بوّان لم تستبدّ بلبّه الحضارة الفارسية ذات التأثير العظيم في محيطه حينها، بل ظلّ في نونيّته الشهيرة يتأمّل المغانيَ الفارسية البديعة بتجرّد جماليّ مدهش، يقارنها إلى الزمان مطلقاً لا إلى مكان بعينه:
مَغاني الشَعبِ طيباً في المَغاني ** بِمَنزِلَةِ الرَبيعِ مِنَ الزَمانِ
وحين لا يجد مناصاً من المقارنة بين الأمّتين المتقابلتين ينحاز – كما في أشهر شروح ديوانه للصيغة المبهمة التي يوردها في مقام المفاضلة – إلى الجانب العربي:
وَلَو كانَت دِمَشقَ ثَنى عِناني ** لَبيقُ الثُردِ صينِيُّ الجِفانِ
يَلَنجوجِيُّ ما رُفِعَت لِضَيفٍ ** بِهِ النيرانُ نَدِّيُّ الدُخانِ
تَحِلُّ بِهِ عَلى قَلبٍ شُجاعٍ ** وَتَرحَلُ مِنهُ عَن قَلبٍ جَبانِ
مَنازِلُ لَم يَزَل مِنها خَيالٌ ** يُشَيِّعُني إِلى النِوبَنذَجانِ
بل حتى وهو يبلغ الغاية في التصريح إشارةً إلى فتنة المغاني الفارسية، فإنه يعمد إلى مقارنة نادرة بين الجنان السماوية وبين الأرض مطلقاً وليس بين بداعة الرياض الفارسية وبين جمال نظيراتها العربية:
يَقولُ بِشِعبِ بَوّانٍ حِصاني ** أَعَن هَذا يُسارُ إِلى الطِعانِ
أَبوكُم آدَمٌ سَنَّ المَعاصي ** وَعَلَّمَكُم مُفارَقَةَ الجِنانِ
مقابل وقفة المتنبي "العروبية" إزاء روعة شِعب بوّان، بدا البحتري "إنسانياً" وهو يتأمّل إيوان كسرى؛ والأرجح - كما لم يخفَ على كثير من النقاد - أن انكساره النفسي العميق لمقتل المتوكّل قد خلع عليه تلك الحالة الإنسانية المجرّدة في تأمّل أعجوبة معمارية من صنع الإنسان لا طبيعة يُمكن أن يُنظر إلى روعتها على أنها هبة ربّانية خالصة. ولكن أبا عبادة يتجاوز الإحالات الإنسانية العامة إلى التصريح المباشر ببداعة إنجاز الندّ الحضاري المجاور:
وَهوَ يُنبيكَ عَن عَجائِبِ قَومٍ ** لا يُشابُ البَيانُ فيهِم بِلَبسِ
لَيسَ يُدرى أَصُنعُ إِنسٍ لِجِنٍّ ** سَكَنوهُ أَم صُنعُ جِنٍّ لِإِنسِ
بل إنه، وقد استبدّت به النشوة على ما يبدو، لا يتورّع عن لمز بكائيّات قومه مباشرة في معرض المقارنة مع ما استوقفه من أطلال كسرى:
حِلَلٌ لَم تَكن كَأَطلالِ سُعدى ** في قِفارٍ مِنَ البَسابِسِ مُلسِ
ثم يبلغ حدّ الانحياز إلى جانب الندّ في تحفظّ ظاهر المراوغة:
وَمَساعٍ لَولا المُحاباةُ مِنّي ** لَم تُطِقها مَسعاةُ عَنسٍ وَعَبسِ
وإذا كان قد أورد من المسوّغات على سبيل إبراء الذمّة ما يلي:
ذاكَ عِندي وَلَيسَت الدارُ داري ** بِاقتِرابٍ مِنها وَلا الجِنسُ جِنسي
غَيرَ نُعمى لِأَهلِها عِندَ أَهلي ** غَرَسوا مِن زَكائِها خَيرَ غَرسِ
أَيَّدوا مُلكَنا وَشَدّوا قُواهُ ** بِكُماةٍ تَحتَ السَنَّورِ حُمسِ
وَأَعانوا عَلى كَتائِبِ أَريا ** طَ بِطَعنٍ عَلى النُحورِ وَدَعسِ
فقد اختتم بما هو خالص الإنسانية في مقام الإعجاب، وإن يكن نخبوياً بوضوح:
وَأَراني مِن بَعدُ أَكلَفُ بِالأَشـ ** رافِ طُرّاً مِن كُلِّ سِنخِ وَأُسِّ
مقارنة بأبي عبادة، في ظلال سينيّته البديعة من الوجهة الفنية الصرفة وتجلّيات نظراتها الإنسانية بصفة عامة، وبتجاوز ما يمكن أن تثيره ممّا قد يستفزّ النزعة العروبية المتشدّدة في اعتزازها بمجمل تاريخها وتفاصيله، فإن أبا الطيب يبدو في كل مقاماته الشعرية والإنسانية شديد الانحياز إلى عروبته تلميحاً وتصريحاً، وإن يكن مثلما أشرنا أشدّ انحيازاً نهاية المطاف إلى نفسه، سواء مقابل ما هو عربي/عروبي أو إنساني/وجودي على وجه الإطلاق، وبقدر من المبالغة منقطع النظير.
للتواصل عبر الإيميل التالي: [email protected]