بعيداً عن سيرته مع المتنبي، صحّ منها ما صحّ وفسد ما فسد في مقام تحرّي دقة القصص والأخبار وقراءة ما وراءها من الدلالات في حال صحّتها؛ بعيداً عن تلك السيرة المثيرة يَبرز ابنُ خالويه في التاريخ والحاضر العربيّين بوصفه عالماً لغوياً/نحويّاً رفيع المقام ومؤلّفاً يجلّه المشتغلون بالدعوة والعلوم الدينية كونه صاحب مؤلّفات من قبيل "إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم" و"الحجة في القراءات السبع" و"مختصر في شواذ القرآن". أمّا شاعرنا العظيم هذا فلا يعدم بدوره – كما أشرنا في مقام مضى - منزلة رفيعة لدى كثير من المنصرفين إلى العلوم الدينية وأمر الدعوة، لا نقول برغم فحش لسانه وسيرته التي لا تخلو من الفسوق وإنما حتى على الرغم مما يمكن أن يقدح في عقيدته من سيرته ومما اشتمل عليه ديوانه، ولنتجاوز عن اللقب وما خلفه من الروايات.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: بين المتنبي ومارادونا
هذا، ولا نعدم مصداقَ مقولة/نبوءة ابن رشيق عن المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في كثير من مظاهر حياتنا الأدبية والفكرية والفنية إلى يومنا هذا؛ ومن ذلك إفراد أعمال فنيّة كاملة عنه، منها أربعة مسلسلات: "المتنبي" في العام 1980، "أبو الطيب مالئ الدنيا وشاغل الناس" في العام 1983، "مصرع المتنبي" في العام 1987، "أبو الطيب المتنبي" في العام 2002. اخترت المسلسلات لأقف عند الأخير هذا مثالاً للعلاقة المثيرة بين شاعرنا وابن خالويه، فقد برز النحوي النحرير وعالم القراءات الحاذق في المسلسل – خاصة عند المواجهة مع المتنبي - في ثياب المتملّق لسيف الدولة والماكر الحانق على الشاعر ذي الحظوة الخاصة لدى الأمير، تلك الحظوة التي تفوق ما ناله ابن عم الأمير أبو فراس الحمداني الشاعر المجيد والبطل المغوار.
غيرَ بعيد عن العلاقة المتأججة بين المتنبي وابن خالويه، بل ربما في صلبها، شرح الأخيرُ ديوان أبي فراس في مخطوطة مستقلة نكايةً في أبي الطيب على الأرجح، أو ربما – بصورة موازية - لمزيد من التقرّب إلى الأسرة الحمدانية الحاكمة. وإذا أجرينا الأمور على المنطقي في القياس لكان أبو فراس أحقَّ من ابن خالويه بالشعور بالغيرة تجاه المتنبي، والروايات المختلفة لا تُخفي على كل حال ضيق أبي فراس من المتنبي وما لديه من حظوة لدى سيف الدولة، لكنّ المواجهات ذات الطابع الدرامي في الإثارة لم تكن بين الشاعرين الكبيرين بقدر ما كانت بين اللغوي الحاذق وبين الشاعر الذي لا يكاد يعترف بغيره من الشعراء أو العلماء. هذا، وربما كان ابن خالويه يخوض حرباً بالوكالة ضد المتنبي، الوكالة عن خصوم أبي الطيب بصفة عامة وعن أبي فراس على وجه الخصوص.
ما الذي كان سيخسره ابن خالويه لو ترك المتنبي وشأنه؟ الإجابة المغرية هي: لا شيء، بل على العكس كانت مكانته بوصفه عالماً رصيناً ستزداد رسوخاً. ولكن ليس من الرصانة التسرّع إلى إجابة من ذلك القبيل مهما تبدُ مغرية، بل لعله ليس من الحكمة إطلاق السؤال ابتداءً، فالمعركة بين الاثنين كانت فيما يبدو أمراً لا مناص منه، وذلك بالنظر إلى المناظرات التي كانت تقليداً رائجاً في مجالس الملوك والأمراء حينها.
وإذا جاز لنا أن نسأل في السياق نفسه سؤالاً ربما يبدو واقعياً بصورة أشدّ دقةً: مَن الذي بدأ المعركة؟ فإنه ليس من السهل البتّ في الإجابة مهما نتعقّب الروايات التي وصلتنا بالتمحيص، فما وراء تلك الروايات مِمّا خفي عنّا كثير لا ريب؛ وعليه فإن صيغة الإجابة التوفيقية - أو تلك التي أرجو أن تكون توفيقية ومنطقية في آن معاً - هي أن البادئ وكذلك المؤجّج باستمرار للمعركة كان سيف الدولة نفسه، وذلك تأسيساً على ما أشرنا إليه من أن المناظرات – الحادّة بطبيعتها – كانت تقليداً رائجاً حينها في بلاط الأمراء، وتأسيساً أيضاً على غير واحدة من الروايات التي تشير إلى أن سيف الدولة كان هو من يمدّ طرف الخيط إلى أحد الرجلين لإشعال المناظرة/المعركة على نحو ما حدث في قصة الخلاف اللغوي بين ابن خالويه وأبي الطيب اللغوي وتوجيه سيف الدولة السؤالَ/الأمر إلى المتنبي: ألا تتكلّم يا أبا الطيب؟
القصة الأخيرة هذه تحديداً بالغة الدلالة في سياقنا هذا، ليس فقط لأنها تؤكّد أن سيف الدولة هو المثير الرئيس لمعارك المتنبي وابن خالويه وإنما لما جاء بعد سؤال/أمر سيف الدولة الشهير ذاك، فقد صدح المتنبّي بما أيدّ رأي أبي الطيب اللغوي وقوّى برهانه، ثمّ تلا ذلك ما تلاه ممّا شكّل إحدى ذُرى دراما المتنبي في قصّته مع سيف الدولة وفي حياته على وجه العموم.
وإذ أذكّر بضرورة أخذ كل الروايات – حتى أشهرها – بحذر بالغ، سواء في قصّتنا مع المتنبي أو في غير ذلك من المقامات على الإطلاق، فإن تكملة القصة الشهيرة على كل حال تشير إلى أن ابن خالويه أخرج مفتاحاً من الحديد (من كمه)، وبعد استفزاز عرقيّ من قِبل شاعرنا العروبي بالغ التعصّب ضربَ ابنُ خالويه وجه المتنبي بمفتاحه الحديدي ذاك فأسال دمه.
استمراراً مع الرواية الشهيرة، فإن سيف الدولة لم يحرّك ساكناً. وبموازاة أن ذلك كان من الأسباب التي عجّلت برحيل المتنبّي عن سيف الدولة كما هو معروف، فإن ما حدث واضح الدلالة على ما ذهبنا إليه من أن الأمير الحلبي كان هو المؤجّج الأبرز – ضمنيّاً أو صراحةً - لمعارك الرجلين، ولا دخل لذلك بإعجابه بالمتنبي ولا بتقديره لابن خالويه في الوقت نفسه، فالمناظرات الساخنة هي التي كانت تهب بلاط الأمراء سلطانها الفكري، وذلك غاية ما يتطلّع إليه أي حاكم مولع بالأدب والعلوم. هذا، وأذكّر مجدداً بأهمية أخذ كل الروايات بحذر شديد، ليس تشكيكاً في صحتها ابتداءً بل للتفاصيل المستترة بالضرورة خلف كواليس ما تراءى لنا عبر القصور والعصور من الحكايات.
في رواية أخرى لا تخلو من الإيحاء وإن بدت ضعيفة، شجّ ابنُ خالويه وجهَ المتنبي بمحبرة وليس بمفتاح؛ والمفتاح على كل حال أقرب إلى الواقعية من المحبرة التي يبدو أن من أوردها أراد للقصة أن تبدو أوفرَ حظاً من الشاعريّة. وإذا كان الأنفع – في معرض ما نتمنّاه - للرجلين ومكانتهما أن تكون القصّة برمّتها من نسج الخيال، فإنني - في حال كان لا مناص من تقبّل ما حدث من شجار بين الرجلين على أنه واقعة لا تحتمل الاختلاق - أرجو أن تكون أداة الشجّ مفتاحاً حديداً لا محبرة، فلو كانت الأداة/السلاح محبرة لتجاوزت دلالة القصة انتصارَ السيف على القلم – في مناظرة فكرية خالصة بين عَلَمين أدبيّين - إلى حيث يتحوّل القلمُ نفسه إلى سيف بالمعنى الوحشي/الهمجي للكلمة.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])