عمرو منير دهب يكتب: لو كان المتنبي متعقّلاً

لم يكن ليكتب الشعر الذي كتب ولم يكن ليغدو المتنبي الذي نعرف؛ لكن ربما كان سيغدو مشهوراً بديوان آخر من الشعر متباين الأساليب والأغراض عبر سيرة ذاتية مختلفة الملامح؛ ما يعني أن شهرته – في حال صحّ الافتراض التخيّلي هذا – لم تكن لتبدو مثل شهرته التي يتمتّع بها الآن، لا نوعاً ولا حجماً.

إذا لم يكن المتنبّي متعقّلاً بالفعل كما يُفهم من سياق عنواننا هذا فهل كان الرجل مجنوناً بالمعنى الدارج عن الفنانين المغرقين في انصرافهم إلى حدود ما يُوصف بالبوهيميّة أو حتى الجنون صراحةً كما يُقصد عند الإشارة إلى بعض أنماط السلوك الغريبة لدى طائفة من المبدعين؟

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: المتنبي ومحبرة ابن خالويه

قرأت لبعض نقّاد الرسام الإسباني ذائع الصيت سلفادور دالي أن الرجل كان مدركاً لعبقريته بشكل مذهل؛ ودالي هذا ممنّ ينطبق عليهم وصف الجنون الشائع في حق الفنانين إذا كان مناط الوصف هو الأفعال وردّاتها الغريبة التي يأتي بها الفنّان في هذا الموقف وذاك أو يبتدع لها المواقف ابتداعاً. غير أن ما كان يعنيه الناقد – في معرض حديثه عن تصريح "جنوني" من قِبل الرسّام العبقري – أن دالي كان يدرك مكامن فرادته الفنيّة بدقة كما لو كان ناقداً بارعاً يتحدّث عن فنّان آخر لا عن نفسه.

ورغم أن الأنماط الغريبة والشاذة كانت محتشدة في أقوال وأفعال الفنان الإسباني العظيم، فإن تصريح دالي الذي أثار تعليق ناقده ذاك كان ثناءً خارقاً على الذات من طراز "جنون العظمة" الذي يشيع بين الشعراء والمفكّرين بصورة أوضح، ولعل أبرز الأمثلة على أولئك الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه الذي لم تخلُ حياته طولاً وعرضاً من أنماط غريبة أغرت خصومه – وحتى بعض عشّاقه – بوصفه بالجنون الصريح. هذا، وتقتضي الدقة الاصطلاحية التنويه بأن "الجنون" ليس ذا دلالة معتمدة في علوم الطب المعنية بالأمراض/الاضطرابات النفسية، وإن تكن الكلمة ذات مرجعية (كلاسيكية) معتبرة في بعض العلوم الأخرى كالقانون والفقه على سبيل المثال، فضلاً عن دلالاتها الفضفاضة غير المنضبطة في المجالات الفكرية والأدبية وفي الحياة بصفة عامة.

الشعراء في التاريخ العربي عموماً لم يتبرّؤوا من تهمة اتّباع الغاوين لهم، بل لم يتبرّؤوا من تهمة الغواية نفسها، فلعلهم بذلك أدخلوا أنفسهم جميعاً في الاستثناء الربّاني: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"، أو لعلهم أدركوا بالفعل أن وصفهم الوظيفي – بحسب أغراض الفخر والمدح والهجاء وغنائية الشعر العربي مجملاً – يقوم على المبالغة في القول، فهم بذلك فعلاً: "يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ".

غير أن شعراء العرب لم ينهجوا مع الجنون النهج نفسه، وهم في عمومهم لم يأتوا أصلاً في أنماط سلوكهم بما يغري بوصفهم بالمجانين؛ والأرجح أن ذلك كان دأب الشعراء عموماً في مختلف البقاع والعصور، فالجنون لم يكن من جملة أحلامهم على صعيد الاختلاف عن بقية المبدعين كما كان الحال مع بعض - أو كثير من - الفلاسفة قديماً والفنّانين حديثاً الذين لم يستنكفوا أن يُرمَوا بالجنون بل أن يسابقوا إلى اجتراح ما يغري برميهم بتلك التهمة من أنماط السلوك قولاً وفعلاً.

المتنبي لم يُخفِ اندفاعه وجموحه، وهو وإن بدا غير حافل بأن يُرمى بالجنون (إذا جاز تخيّل ردة فعله إزاء تهمة من ذلك القبيل تُلقَى في وجهه) فإنه على كل حال لم يرَ في مبالغاته وجموحه جنوناً بل عقلاً خارقاً تجاوز الناس جميعاً، بل الزمان، زمانه على الأقل:

أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني ** ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ

ثم لا يلبث أن يتجاوز الدهر بجلاله، بل يخضعه لسلطانه الشعري:

وَما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قصائدي ** إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِداً

هذا، وفي سيرة الشاعر العظيم على كل حال الكثير ممّا يشير إلى غرابة أطواره، سواءٌ في بواكير تلك السيرة أو حتى مع أوجها في بلاط سيف الدولة وما بعد ذلك ممّا يمكن وصفه بذرى درامية أخرى مع كافور الإخشيدي وإلى أن أدركته المنية قتلاً؛ ومن الجدير بالتذكير على كل حال أن كثيراً ممّا ورد في سيرة شاعرنا الكبير يستدعي التدقيق بما يفضي إلى قبوله أو رفضه رجوعاً إلى الأسانيد التاريخية أو الحجج الأدبية أو حتى إلى القياس والمنطق بصفة عامة.

بعيداً عن تهمّة الجنون تحديداً - وإن بمدلولها الفضفاض - كان المتنبي إذن مندفعاً لا ريب، بل كان متهوّراً لا يكاد يتبصّر العواقب، أو يتبصّرها ويتيه بعدم الاكتراث لها؛ وإذا كان ذلك محموداً على صعيد المعارك القتالية – بالمدلول الحرفي - التي خاضها/شهدها ومغامرات أسفاره التي شق فيها الصحارى والقفار، فإنه ليس محموداً بطبيعة الحال في إطار تعاملاته "اليومية" مع الناس من حوله. ولكن شاعرنا العظيم لم يكن مندفعاً متهوّراً إزاء من حوله من عامة الناس وخاصتهم فحسب، بل لم يكن يتورّع عن الاندفاع والتهوّر أمام أعظم ممدوحيه أيضاً، وبيته من ميميته الذائعة في حضرة سيف الدولة مشهور في هذا المقام، فقد أطلق نبوءته بإدراك مَن حوله في المجلس خيريّتَه على الناس قاطبة (وفيهم الأمير) لا على الشعراء والأدباء فحسب:

سيَعلَمُ الجمعُ ممَّن ضمَّ مَجلسُنا ** بأنَّني خيرُ مَن تسعى بهِ قَدَمُ

ومن الحكمة الانتباه هنا إلى أن جموح الشاعر العظيم في حضرة – بل في مواجهة - ممدوحه الأمير يتجاوز جموحه في مواجهة الزمان والدهر، فالجموح الأخير هذا إنما هو محض وهْم/خيال (مشروع) يؤخذ على أنه نكاية في غيره من الشعراء والأدباء لا في الزمان والدهر بطبيعة الحال، ولو كان تحدّياً للزمان والدهر لما اكترث له أحد؛ في حين أن جموحه الأول في حضرة/مواجهة الأمير من الممكن أن يُحاسَب عليه حساباً دقيقاً/قاسياً، وقد كان.

ولعل أقصى تجليات جموح شاعرنا الكبير كان ما أشرنا إليه في مقام مستقل قريب:

أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي ** أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي

وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ الــلـــه وَما لَم يَخلُقِ

مُحتَقَرٌ في هِمَّتي ** كَشَعرَةٍ في مَفرِقي

وإذ لا حاجة إلى الإفاضة في الحديث عن مدى المبالغة/الخيال/الوهم ضمن تساؤل الشاعر الاستنكاري هذا، فإن ذلك المدى العظيم من الجموح/الجنون هو ما صنع المتنبي على النحو الذي أبقاه حاضراً في ذاكرتنا الأدبية على مرّ القرون بأفضل مما تسنّى لغيره من الشعراء المتعقّلين والجامحين على حدّ سواء.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])