لا أظن أن متلقّياً باستطاعته أن يقف محايداً إزاء المتنبي، والحياد على كل حال بالغ الصعوبة - بما يصل إلى حدود الاستحالة - أمام أيّ من الناس والمواضيع على اختلاف المقامات، وإن يكن بعض الناس والمواضيع أصعب من بعض من حيث الوقوف على الحياد إزاءه، وشاعرنا الكبير هذا من أبرز الأمثلة على شخصية تستفز الآخرين غالباً إلى اتّخاذ أحد موقفين لا ثالث لهما أمامها: إمّا الاندماج بالإعجاب المستفيض وإمّا النفور بالعداء السافر؛ ومن الحكمة الانتباه إلى أن عداوة المتنبّي (التي هي بئس المُقتنى بحسب تعبيره) لا تورث الإنزواء أو الابتعاد عنه بل تقتضي غالباً الدوران في فلكه بالمتابعة الشرسة.
المتنبي إذن، كما سنرى بأمثلة من شعره، لا يسمح لأحد بالوقوف محايداً أمام ديوانه وشخصّيته اللذين لا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ كانت تلك سيرة المتلقّين مع الرجل وأشعاره منذ زمانه وما تلاه من العصور إلى يومنا هذا، فالناس حيال المتنبّي إمّا ابن جنّي وإمّا ابن خالويه.
هذا، ومن المهم الانتباه إلى الاختلاف بين مدلولي الكلمتين: "الحياد" و"الموضوعية"، فإذا أمكن تقسيم الحياد إلى نوعين: حياد فكري وحياد عاطفي، فإن الابتعاد عن أيٍّ من نوعَي الحياد هذين – لأيٍّ من الأسباب - لا يعني بالضرورة الانحراف عن الموضوعية في التقييم.
الحظ من الموضوعية في الغالب مما يُطبع عليه المرء، فقد لا يكون المتلقّي محايداً بدافع عاطفي أو لموقف فكري تجاه إنسان أو فكرة دون أن يمنعه ذلك من إبداء رأي لا يخضع تماماً لموقفه الفكري أو نزعته العاطفية تجاه الشخص أو الفكرة، وذلك مع تذكّر أن التجرّد الكامل عند الحكم مستحيل، فضلاً عن أن الحكم "الأصوب" على أيٍّ من الناس أو الأفكار ليس سوى وهْمٍ كبير، فأحكامنا تتغير من حين إلى حين بتغير مواقفنا العاطفية والفكرية تجاه الشخص نفسه والفكرة ذاتها.
في المقابل، يمكن أن ينحرف المرء عن الموضوعية وهو محايد، وذلك كما في حالات "حياد التخاذل"، أي عندما يقف الإنسان محايداً خشية أن ينحاز إلى طرف ضعيف يستحق الإنصاف؛ وقد ينأى المرء عن الموضوعية لافتقادها بوصفها فطرة/ملكة عند إطلاق الأحكام بصفة عامة. والموضوعية، باختصار أرجو ألّا يكون مخلّاً، هي الاقتراب إلى أبعد الحدود من الإنصاف في الحكم بعيداً عن الموقفين العاطفي والفكري من القضية موضوع الحكم. وعلى كل حال، أحكامنا ومجالاتها من المشاعر والأفكار نسبية ومتغيّرة مهما تُهيّئ لنا نفوسُنا (المطمئنّة) من اليقين في أي مقام.
بذلك كله في الاعتبار، ننظر إلى المتنبي بوصفة من الحالات الاستثنائية على صعيد الحياد وما يجرّه من تبعات الأحكام الموضوعية. وبالحديث عن ديوان العرب تحديداً، يكاد المتنبي يكون الاستثناء الأبرز إذا صحّ أن ثمة غيره مَن قد تجاذبته الألسنة والأقلام إلى درجة استثنائية بتلك الحدّة من الاختلاف والتشاكس في المشاعر والآراء.
يدفع المتنبي قارئه بل يستفزّه استفزازاً إلى اتخاذ المواقف الفكرية والعاطفية لأنه كان بالفطرة شخصية شديدة الانجراف فكرياً وعاطفياً؛ غير أن الأجدر بالانتباه في تحيّز المتنبي - فكرياً وعاطفياً - أنه تحيّز ذاتي، فهو منحاز إلى نفسه ابتداءً وليس إلى غيره إلّا بقدر ما تكون مصلحته الذاتية الخالصة مع ذلك "الغير".
يبدو أن المتنبي كان يحتفظ بتقنيات من مستويات متعددة لاستفزاز قارئه، بل للتحرّش بالناس أجمعين من السالفين واللاحقين. اللافت أن الرجل كان يعمد إلى الاستفزاز في مقامات لا تحتاجه، فيصطنع موقفاً يخال فيه الأعداء متربّصين به وينطلق من ثمّ يدافع عنه نفسه عبر هجوم غاشم لا يبصر أمامه ولا يتبصّر العواقب.
ماتت جدّته التي أحبها عميقاً كما يتبيّن من سياق القصيدة النادرة – بل الوحيدة - من حيث إبرازها هذا الجانب العاطفي العائلي المفتقد في شعره؛ ماتت جدّته فتخيّل ثُلّة تفرح بموتها وراح يتوعّد تلك الثلة:
لَئِن لَذَّ يَومُ الشامِتينَ بِيَومِها ** فَقَد وَلَدَت مِنّي لِأَنفِهِمُ رَغما
وقبلها جعل يفخر بنفسه في غير موضع فخر وإنما فقط ليمهّد – على الأرجح - لوعيد الشامتين المتخيَّلين ثم الفخر المطلق بنفسه استعلاءً على بني آدم قاطبة:
وَلَو لَم تَكوني بِنتَ أَكرَمِ والِدٍ ** لَكانَ أَباكِ الضَخمَ كَونُكِ لي أُمّا
تَغَرَّبَ لا مُستَعظِماً غَيرَ نَفسِهِ ** وَلا قابِلاً إِلّا لِخالِقِهِ حُكما
من تقنيات/أساليب المتنبي في استفزاز القارئ للخروج من أية حالة حياد تجاه شعره وتجاهه هو ما أرجو أن يجوز وصفه بـ "التعريض". لنتأمّل قوله في ميميته الشهيرة محذِّراً سيف الدولة شخصياً – بعد مقدمة رائعة في مدحه تبدو كما لو كانت تداعياً بين يدي محبوب لا ممدوح - في تلميح لا يخفى على الأمير الأريب، والشاعر أصلاً لا يريد لتحذيره ذاك أن يكون خافياً:
لئنْ تَرَكْنَ ضميراً عن ميامِنِنا ** ليَحْدُثَنَّ لِمَنْ وَدَّعتُهم نَدَمُ
إذا ترحَّلتَ عن قومٍ وقد قدَروا ** ألا تُفارِقهُمْ فالرَّاحلونَ هُمُ
غير أن شاعرنا على وجه العموم قلّما يلجأ إلى التعريض في مقام جرّ قارئه بعيداً عن الحياد، فهو مباشر في استفزازه، والحالة أعلاه قد أملاها مقام حبه وعتابه العميقين لسيف الدولة في ذروة درامية لعلاقتهما شديدة الخصوصية، وإن يكن الرجل لا يتورّع على كل حال عن اللجوء إلى استفزاز الأمير بـ "التصريح" المباشر مكتسحاً الناس قاطبة وفي جملتهم الأمير نفسه، وذلك كما في بيته الشهير الذي عرضنا له من قبل في القصيدة نفسها:
سيَعلَمُ الجمعُ ممَّن ضمَّ مَجلسُنا ** بأنَّني خيرُ مَن تسعى بهِ قَدَمُ
والبيت الذي قبل هذا ربما بدا أقرب إلى التعريض، لكنه أشدّ وخزاً من تصريح مباشر والمخاطَبُ ليس سوى الأمير بجلال مقامه:
وما انتفاعُ أخي الدُّنيا بناظرِهِ ** إذا استَوَت عندَهُ الأنوارُ والظُّلَمُ
وإذا كان شاعرنا يريد إخراج سيف الدولة من موقف المحايد بينه وبين خصومه من الشعراء والأدباء فقد أفلح، لكن الأمير خرج بذلك الزخم من الاستفزاز إلى حيث انحاز إلى خصوم الشاعر رغم إدراكه قيمتَه ومدى غيرتهم منه وحقدهم عليه. وإذا كان ذلك شأن الأمير مع حادثة "الميمية" الشهيرة وخلفياتها، فإن المتنبي لم يفقد على كل حال مكانته في وجدان سيف الدولة حتى بعد هذا التجافي الشهير، لكن ذلك لم يكن شأن شاعرنا مع كل من طالتهم سهامُ استفزازه من القرّاء المحايدين بطبيعة الحال، وإن يكن جديراً بالتنويه أن الرجل أفلح تماماً في الاحتفاظ بمعجبيه في أشدّ حالات الإعجاب والوله مع استفزازات من طراز إنساني – بل وجودي - شامل من قبيل ما أشرنا إليه أيضاً في مقام مستقل قريب:
أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي ** أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي
وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ الــلـــه وَما لَم يَخلُقِ
مُحتَقَرٌ في هِمَّتي ** كَشَعرَةٍ في مَفرِقي
بين منزلتَي "التصريح" و"التعريض" تقع تقنية/أسلوب "التحذير الضمني"، كما في قوله:
وَإِذا أَتَتكَ مَذَمَّتي مِن ناقِصٍ ** فَهِيَ الشَهادَةُ لي بِأَنِّيَ كامِلُ
فهو لا يهدّد هنا إلا من يذمّه، فإذا لم تفعل فأنت في أمان. لكن، من الواضح أن الرجل لا يتورّع عن مزج تقنيات/أساليب الاستفزاز معاً في القصيدة الواحدة، بل إنه ينتقل من أسلوب إلى آخر في الأبيات المتجاورة، وقد يصعد في استفزازه بتقنية عالية ثم يعود فينزل مستعيناً بأخرى أدنى منها، لا أقول مراعاة لمقتضى سياقي بعينه وإنما جرياً على نمط القصيدة العربية الكلاسيكية التي لم تعبأ كثيراً بوحدة الموضوع وانصرفت إلى الاهتمام ببلاغة كل بيت منفرداً؛ فالشاعر هنا قبل تحذيره الضمني ذاك وبعده يورد الأبيات التالية الأقرب إلى الاستفزاز الصريح ولكن لطائفة بعينها من الناس هي طائفته "الوظيفية" التي ينتمي إليها، وإن يكن البيت الأخير يبدو موجّهاً لجميع أهل - بل "أهيل" - زمانه:
لا تَجسُرُ الفُصَحاءُ تُنشِدُ هَهُنا ** بَيتاً وَلَكِنّي الهِزَبرُ الباسِلُ
ما نالَ أَهلُ الجاهِلِيَّةِ كُلُّهُم ** شِعري وَلا سَمِعَت بِسِحرِيَ بابِلُ
مَن لي بِفَهمِ أُهَيلِ عَصرٍ يَدَّعي ** أَن يَحسُبَ الهِندِيَّ فيهِم باقِلُ
لكنه لا يلبث أن ينتقل بعدها مباشرة إلى استفزاز من الطراز الإنساني/الوجودي الذي أشرنا إليه، فيجعل ممدوحه طِيباً للطيب وماءً يغسل الماء، ومن قبلُ حقّاً وما سواه هو الباطل:
وَأَما وَحَقِّكَ وَهوَ غايَةُ مُقسِمٍ ** للحَقُّ أَنتَ وَما سِواكَ الباطِلُ
الطيبُ أَنتَ إِذا أَصابَكَ طيبُهُ ** وَالماءُ أَنتَ إِذا اِغتَسَلتَ الغاسِلُ
ما دارَ في الحَنَكِ اللِسانُ وَقَلَّبَت ** قَلَماً بِأَحسَنَ مِن ثناكَ أَنامِلُ
المتنبي إذن شديد الولع بالاستفزاز بحيث يبدو بالغ الحرص على أن يُخرج قرّاءه من حالة الحياد أمام نصّه الشعري إن لم يكن إلى الإعجاب به والتوحّد معه فلا بأس باستفزازهم إلى الاشتباك مع شعره ومعه من قبل؛ ألا يبدو ذلك جليّاً في قوله:
أنامُ مِلْءَ جُفُوني عن شوارِدِها ** ويَسْهَرُ الخلقُ جرَّاها وَيَختَصِمُ
فقد كان كافياً في معرض اعتداده بأدبه وبيان اكتساحه الجماهير ما قاله في البيت الذي يسبق ذلك مباشرة:
أنا الذي نظَر الأعمى إلى أدبي ** وأسْمعَت كلماتي مَن بهِ صَمَمُ
ولكن الرجل لا يسعى إلى شيء على ما يبدو في مقام تفاعله مع قرّائه مثلما يسعى إلى استفزازهم بأقصى ما يستطيع؛ وكما أشرنا فإنه يتعمّد ذلك الاستفزاز بمناسبة وبدون مناسبة، أي حين يكون هناك ما يدعو إلى المواجهة المستفزة وحين لا يكون ثمة داع لمواجهة من أي قبيل.
للتواصل مع الكاتب: ([email protected])