بعنوان يتسق وتوجه الكاتبة في طرحها، قدمت لنا الكاتبة الكويتية بثينة العيسى " دار خولة" مُنجزها الأحدث الصادر عن منشورات تكوين.
وفق التحليل السردي الحديث للأدب الكويتي، ونظرًا للبيئة الجغرافية المحدودة هناك، نجد أن البيت/ الدار يُشكل دائمًا بؤرة مركزية تنبثق منها الأحداث وتتواشج، فضلًا عن أن أغلبها تدور في البيت نفسه باعتباره مكانًا مغلقًا تحركت في الشخصيات ما بين المطبخ وحجرة نوم خولة، وحجرة الطعام في أثناء تجمعهم، وكأنك على طريقة دافنشي، في حفل عشاء أخير، أو ربما الأول لعائلة متباينة في الأيدلوچيات، فلم يخفِ تباينها انغلاق المكان ومحدودية نطاقه الجغرافي، بل العكس تمامًا كان فاضحًا وكاشفًا للفجوة بينهم.
وبالتمعن في العنوان باعتباره العتبة الأولى لقراءة النص تبعًا لمنهج چيرار چينت، نجده طلليًّا في سميائيته، ليتسق مع كون البطلة المحورية للنص أستاذة فلكلور متزوجة من أستاذ أدب عربي، وشاعر في الوقت ذاته، فعلى طريقة القدماء في استهلال قصائدهم بالوقوف على الأطلال وبكاء الديار، ولهذا عنونت الكاتبة نصها بـ (دار خولة)، وللتأكيد على ذلك عززت رؤيتها باستهلال طللي آخر في البداية
"أسوأ ما يمكن أن يحدث للإطلال ألا يبكي عليها أحد"
ولم تكتفي بالمقدمة الطللية، ولا بالعنوان لترسخ في ذهن القارئ مقصدها، فلجأت لأبيات الشعر الغزلية التي نظمها قتيبة في خولة على طريقة كُثير عزة، وقيس ليلى:
" قفا في دار خولة" وتأثرًا بمعلقة الملك الضليل امرؤ القيس
" قفا نبك بذكرى حبيب ومنزل.. بسقط اللوى بين الدخول فحومل".
يدور العمل حول خولة أستاذة الفلكلور وأرملة أستاذ الأدب العربي، والتي وقعت في فخ الحُلم الأمريكي الزائف فقدمت ابنها الأكبر (ناصر) قربانًا له، لكنها وبعد فوات الأوان تحاول استعادته من فم مجتمع لا يواءم مع توجهها.
لترسيخ أن العمل قضيته الأولى وثيمته الرئيسية أزمة الهوية في ظل التوغل الأمريكي، جاء زوج خولة باسم "قتيبة" وكأنها تريد أن تقول أن ابن قتيبة اليوم (ناصر) ابنها المتأمرك، يختلف عن ابن قتيبة في الماضي ( ابن قتيبة الدينوري) الأديب والمؤرخ العربي المعروف صاحب كتاب طبقات الشعراء، وعيون الأدب، وكتاب معاني الشعراء)، في مفارقة سيموطيقية تحسب للنص .
أما عن الرموز فقد جاءت متكلفة في دلالتها لكثرتها، بدء من حوض السمك في الغلاف، ثم الحديث عنه فيما يخص خولة في بداية العمل، ثم في النهاية فيما يخص الابن الأصغر حمد، بطريقة أشبه بمشهد سقوط الذبابة في فنجان الشاي في فيلم " الباب المفتوح " لحظة خطبة فاتن حمامة/ليلى، ومحمود مرسي أستاذها، ولم يقتصر الأمر على تدوير الرمز فحسب، فقد تم تدوير المقدمة الطللية نفسها
"أسوأ ما يمكن أن يحدث للإطلال ألا يبكي عليها أحد"" شعرت أنها المرأة الأخيرة في قارة تغرق على مرأى من الجميع، قارة تفقد دون أن يفتقدها أحد"
ولهذا لم يكن من المنطقي أن تكون نوفيلا / رواية قصيرة اعتمدت في بنائها على التكثيف والإيجاز ألا تكترث لتكرار المعنى ذاته!
ثمة مفارقة أخرى تمثلت في مزج البرنامج (تفاصيل) الذي ستحل خولة ضيفة عليه، بعد غيابها عن الأضواء لسنوات بين الرمز والمفارقة( تفاصيل)، حيث أراد ناصر منها الحديث باقتضاب لضمان عدم تكرار الخطأ السابق، وطالبها يوسف بالاعتذار وعدم الظهور، وعن المفارقة الأكبر فقد كانت بين عنوان البرنامج نفسه، وتفاصيل العمل، فلم نجد خلفية تاريخية لنشأة يوسف الابن الأوسط، كناصر!
رغم أن " الهوية" الثيمة الرئيسية للنص إلا أنها لم تكن الأقوى، فإن كانت الأزمة من منظور خولة وزوايا رؤيتها تأمرك ناصر، فلماذا فشلت في تربية يوسف، فصحيح أن يوسف ليس بمتأمرك، لكنه أيضًا بتكوينه الأيديولوجي غير سوي، ولا ينبأ بأنه ابن لأستاذ أدب عربي وأستاذة أدب فلكلوري، حتى ناصر نفسه والذي تنعته خولة بالمتأمرك لغته الأجنبية أيضًا ركيكة فلم يقتصر الأمر على العربية فقط، ولا تزيد عن جملة قصيرة، في الحوار، ولهذا فكانت الأزمة الحقيقية ليست في الهوية، ولكن جوهر النص يكمن في العقدة الأودبية بين خولة وأبنائها، فقد حمل كل منهم دورًا غير دوره، فنجدها تأمر ناصر وتستشير يوسف، أم لناصر وابنة ليوسف، فأصبح يوسف بمثابة الأب والزوج لها يقوم بأدوار ليست أدواره، كل جرح من ناصر يقابله منح من يوسف، فعلى لسان البطلة أحس بأن إسعادها مسؤوليته وحده، ومع ذلك لم تكن سعيدة لأنه لم يكن ناصر.
حتى صغار يوسف رغم كبرهم ما زالوا ينامون بغرفة الأب والأم بينهما، كذلك كان ناصر في الماضي، فكان تعوديه على النوم بمفرده أشبه بالفطام الثاني على حد قولها.
ولأن البنيوية الأدبية تحاكي البنيوية اللغوية فلم يكن مستساغًا أن يأتي التعبير "ميتة جدًا" لوصف السمكة حتى وإن كانت الجملة على لسان حمد الابن الأصغر، لسببين كون الفعل الموت غير قابل للتفاوت، فضلًا عن أن حمد لم يكن طفلًا لا يعرف لغته، ولا هي جملة قيلت على سبيل (الروشنة) بمفهوم العصر، وإلا لم تكن ركاكة اللغة مشكلة ناصر فقط!
في مكنون العقل الإنساني وحصيلة تجاربه الانتقال من الجزء/ البعض إلى الكل، ومحاولة الربط المنطقي والسببي يضعنا صوب الطريق الصحيح، وفي "دار خولة" تجدها تسعى لإصلاح العالم، وتبصر عيوبهم بمرآتها قبل أن تبصر ذاتها، وتنبش داخل مكنونات خوائها، تريد إصلاح الكون وهي العاجزة في الماضي والحاضر عن جمع شمل أبنائها، ففي تناقض فج تزعم أن أبناءها سيحولونها لأضحوكة، في حين أنها هي من سبقتهم، وهي من قبلهم بالفعل كذلك حين تحولت لمصلقات يتبادلها الجميع على وسائل التواصل.
وقد وضعت خولة في تصورها حلًا لكل القضايا المطروحة في العمل من منظورها، بقولها للمذيع في حوار سابق" الإصلاح يجب أن يأتي من فوق ".
ينتهي الصراع باشتباك ومشاحنات بين ناصر ويوسف، ولا أعرف سببًا واضحًا لصدمة خولة في أبنائها للحد الذي يجعلها تفترش الأرض، فأستاذة مثلها تنتقد هذا وذاك عاجزة عن توقع مشهد كهذا من أبنائها! وأبناء مثل أولادها بخلفيتهم الاجتماعية والثقافية هل هذه أول مرة! حتى وإن كان العشاء هذا العشاء الأخير لهم كأسرة!
ينتهي العمل وهو يرسخ لمفهوم الهوية، وهي القضية التي قُتلت طرحًا في أعمال أدبية كثيرة، لكنني وددت لو أن المساحة الأكبر في الطرح كانت من نصيب تقمص الأبناء أدورًا غير أدوارهم، وتحملهم أعباء إرث لا طاقة لهم به، فجميعهم عانوا دون وجود من يكترث