في معرض الحديث عن أدوات الشخصية الكاريزمية استناداً إلى طبيعة الحرفة التي تمارسها الشخصية، وتحت عنوان "كاريزما الكاتب"، ذهبنا في "تواضعوا معشر الكتّاب" إلى أن "أداة الكاتب الكاريزمي الأوّلية فيما نزعم هي اسمه الذي ينبغي أن يكون موسيقياً قابلاً للحفظ – إلى غير نسية – من الوهلة الأولى التي تقع فيها عينا القارئ عليه، ولن نشتطَّ فنشترط أن يكون اسم الكاتب ثنائياً كما رأى الكاتب المصري أحمد بهاء الدين عندما سـُـئـل في برنامج تلفزيوني عن السبب في عدم وضعه اسم أبيه إلى جوار توقيعه (أحمد بهاء الدين اسم مركّب) فقال ما مفاده أن الأصل في تواقيع الـكـُـتــّـاب أنها ثنائية، ثم بــُـهت عندما ذكّره المذيع بعباس محمود العقاد المفكر المعروف الذي كان يوقع على مقالاته وكتبه باسمه ثلاثيّاً".
هذا عن أثر الاسم في كاريزما صاحبه الكاتب، فماذا عن اللقب؟ لا شك أن تأثير الأخير أعظم، سواءٌ سلباً أو إيجاباً بحسب ما يراد منه؛ فاللقب يختاره الناس بل يخترعونه اختراعاً لغايات في نفوسهم، فلا غرابة إذن في أن يُذيعوه إلى أقصى الحدود ويحتفوا بدلالاته احتفاءً عظيماً، على غير الحال مع الاسم الذي لا يملك الكاتب نفسه من أمر اختياره حظّاً إلّا بقليل من التعديل كما هو الحال مع ما يعرف بـ"الاسم الأدبي" الذي يمكن أن يتطوّر من كونه مجرد تعديل طفيف – بالاكتفاء باسم العائلة إلى جوار اسم الكاتب أو تعديل اسم العائلة - إلى حيث يغدو لقباً مستقلّاً يختاره الكاتب لنفسه فيمهر به مؤلّفاته ويتمنّى لو استطاع إلى ذلك التغيير سبيلاً في الأوراق الرسمية.
لو لم يكن "المتنبي" لقب شاعرنا العظيم لاخترع الناس له على الأرجح لقباً آخر يتناسب مع استثنائيته، وهذا باختصار مباشر جواب شرط "لو" التي في عنوان المقال؛ فأحمد بن الحسين وحده ليس كافياً لإضفاء الهالة التي تليق بأعظم شعراء العربية تأثيراً على مرّ العصور، والناس منذ زمانه كانوا يدركون استثنائيته التي لم يكفّ هو نفسه عن إبرازها في كل قصيدة يصدح بها، سواء اقتضى المقام أو لم يقتضِ كما ألمحنا من قبل.
لم يختر المتنبي اللقب على الأرجح، لكنه كان سعيداً به؛ وإذا صحّت قصة ادّعائه النبوّة فإن اللقب يذكّره بطموحه الذي كان يتطلّع إليه ولم يفارقه على الأرجح، أي الارتقاء من منزلة البشر العاديين إلى الخارقين من طراز الأنبياء.
ما أكثر ما أغرى المتنبي - بروحه الثائر وسيرته التي حاكَها القلقُ الجارف والطموح الكاسح - باختراع القصص والأخبار عنه، أو على الأقل إعمال الخيال فيها بالتحوير والمبالغة؛ وليس بدعاً أن يكون اللقب النادر - والحصري إلى يومنا هذا - مداراً للعديد من الروايات والتأويلات.
نقلاً عن كتاب "ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام" لعبد الوهاب عزام، من نسخة على الإنترنت، نقتطف القصة "القصيرة" التالية التي تجمع في مقام التشويق الدرامي بين إثارتين، إثارة الخصومة بين المتنبي وابن خالويه وإثارة الأقاويل حول اللقب الباعث للخلاف: "قال له (للمتنبي) ابن خالويه النحوي يوماً في مجلس سيف الدولة: لولا أن الآخر جاهل لما رضي أن يدعى المتنبي؛ لأن متنبي معناه كاذب، ومن رضي أن يدعى بالكذب فهو جاهل. فقال (المتنبي) له: أنا لست أرضى أن أدعى بهذا، وإنما يدعوني به من يريد الغض مني ولست أقدر على الامتناع".
ليس ادّعاء الرجل النبوّة فحسب، وإنما القصة أعلاه نفسها تحتمل الصدق كما تحتمل الافتراء، وأرى أن كذبها أدنى إلى المنطق من صدقها بالنظر إلى أن المتنبي أبلغ إسكاتاً في معرض المجادلة وأحدّ لساناً من أن يكتفي بردّ واهٍ كذلك الذي دافع به عن نفسه إزاء اتهام خصمه اللدود. في المقابل، تبدو القصة منطقية بحيث يرجح صدقها على اختلاقها إذا نظرنا إليها من جهة أن المتنبي – بصرف البصر عن حقيقة ادّعائه النبوّة وعن التفاصيل المتشعبة للقصص التي تحوم حول اللقب - يريد بالفعل لذلك اللقب أن يستمر لما يخلعه عليه من خصوصية استثنائية؛ فبذلك كان اقتضابه الرد على ذلك النحو تصّرفاً تلقائياً تجاه ما لا يزعجه، بل ما يرجو أن يظلّ متداولاً عبر الزمان.
أحمد بن الحسين شاعر جيّد، وأبو الطيّب شاعر ممتاز، أمّا الاستثنائي فهو المتنبي لا غير، فاللقب هو الهالة التي تجلّل سيرته الملائكية، أو لعله قَرْنا شيطانه الشعري المريد.