لينا رحمو
صدر حديثا كتاب يحمل اسم "مصر يا عبلة.. سنوات التكوين" للفنان التشكيلي محمد عبلة، عن دار الشروق للنشر، المكون من 225 صفحة، بالإضافة إلى صور للعديد من أعماله، قدم خلاله "عبله" رحله قراءة إلى الماضي، بكل جوانبه من خلال وصفا دقيقا لفترة السبعينات والثمانينات بصور وأحداث تُشعرك وكأنك كنت هناك، وليس فقط بتناول رحلته في عالم الفن وإنما تفاصيل الحياة خلال هذه الحقبة في الأرياف والإسكندرية والقاهرة والأقصر والعراق وحال الفنانين في آنذاك.
وأهدى "عبلة" ذلك الكتاب إلى زوجته وعائلته وأصدقائه الذين شجعونه على استكمال حكاياته، وأيضا لـ جمال القصاص على صبره وحضوره وفقا لتعبيره، ولروح صديقه الدكتور شاكر عبد الحميد الذي كان واعده بكتابة المقدمة، وأخيرا إلى قراء الكتاب.
بدأ "عبلة" حديثه بحبه للفن التشكيلي والرسم منذ الصغر، وكيف كان بعض مدرسيه غير مستوعبين لذلك وينتقدون رسمه على جدران المدرسة سوى مُدرسة واحدة تبنته فنيا وسمحت له بإفراغ موهبته عبر "غرفة الرسم" بالمدرسة، التي كان يقضي بها أغلب أوقاته، وكيف كان يرى والده أن "الرسم" سيجعله غير متفوق دراسيا وسيؤثر على حياته بالسلب.
خاض "عبلة" معركة كبيرة من أجل التحاقه بكلية فنون جميلة بالإسكندرية بعد رغبة والده المستميتة في دخوله الكلية الحربية، الحد الذي وصل به إلى منعه من دخول المنزل نهائيا حال إصراره على موقفه، وهو ما قام به بالفعل، ولم يسامحه والده إلا بعد فترة طويلة.
كما أنه عانى بعد تركه لكلية الفنون التطبيقية لأنه لا يرغب في دراسة المواد النظرية فقط، بسبب رغبة وكيل الكلية في أن يعيد الثانوية العامة مرة أخرى، ولكن أنقذه عميد الكلية كامل مصطفى الذي صدق على ورقه مضمونها "تُقبل أوراقه بالكلية لأنه فنان".
كافح "عبلة" من أجل تحقيق حلمه وسكن في إحدى الشقق السكنية في الإسكندرية وقرر الالتحاق بالكلية والإلتزام وتحدث عن ما تعلمه على يد أساتذته لعل أبرزهم حامد ندا، وتجربته هو وزملائه في رسم أول "موديل عاري"، وكيف كان يتعرف على كافة زملاه في الجامعة، حتى أنه ظل وقتا مع زملائه من الطلاب التابعين للجماعة الإسلامية، كما أن جو إسكندرية الساحر، ساعده على التأمل والرسم كثيرا، وعمله في العديد من المهن من أجل كسب قوت يومه وإدخار مصاريف دراسته.
لم يكتفي "عبلة" بدراسته وتواجده بين القاهرة والإسكندرية، وإنما قرر في إحدى إجازاته الصيفية الذهاب إلى "بغداد" مرورا بـ"دمشق" من أجل مجاورة فنانينها العظماء، والحصول على بعض الكتب التي لا توجد سوى هناك، وهو ما يؤكد على إصراره على التعلم، وقد مكث هناك نحو شهر واكتسب منهم ومن فنونهم الكثير وعمل هناك وكان يفكر في البقاء خاصة مع تلقيه عرضا بالدراسة في الأكاديمية ببغداد، ولكنه عاد من أجل استكمال دراسته.
قادنا "عبلة" في رحلة أكثر من رائعة إلى الأقصر بلد الأصالة، التي ذهب إليها باحثا عن فكرة تتخمر في ذهنه من أجل مشروع التخرج وظل هناك قرابة شهر ولكن دون أن يرسم لوحه واحدة ولكنه اكتسب من طبيعيتها وأهلها الكثير، وفي رحلة عودته إلى القاهرة ومنها إلى الإسكندرية عبر مركب، التقي بالمراكبية وسألهم عن وجهتهم وأخبروه أنهم سيتهجون إلى قنا لنقل بعض البضائع، فقرر الذهاب معهم ومن هناك سجل كل رحلتهم وعملهم حتى أوقات سمرهم، وتأكد أن ذلك هو "لب" مشروع تخرجه.
في حوار مع الدكتور حامد عويس رئيس القسم، سأله الأخير عن رأيه في أعماله، وعندما جاوبه بصراحة تعامل معه بحدة غير متناهية مرور بتهميشه وعدم الإشادة بروسماته مرورا بتجاهل أعماله وعدم الإشادة بها، ورغبته في إفساد درجاته في سنة التخرج لولا تدخل رئيس الكنترول، ورغم ذلك كان الأول على دفعته بتقدير جيد جدا، مع مرتبة الشرف، ولكن علاقتهما السيئة حالت بينه وبين تعينه معيدا بالكلية.
بعد تخرجه وزواج شقيقه قرر الإقامة في القاهرة وذهب لأداء الخدمة العسكرية، وفي هذه الأثناء عمل في عدة مهن منها تسويق قطع غيار سيارات، وأيضا خلال تواجده في الجيش تعاون لتصميم "لوجو" للمعسكر وساهم في عمل خريطة مجسمة لمصر بكامل تضاريسها.. كما أنه عمل أيضا في مصلحة الدمغة والمصوغات وتعلم الكثير
خلال أداء الخدمة العسكرية تقابل مع "سنيور أدريان" أستاذه الذي أصبح مديرا للمركز الثقافي الإسباني بشارع عدلي، والذي كان يشجعه كثيرا وطلب منه إقامة أول معرض بالمركز، ورغم أنه لم يكن لديه العديد من اللوحات فقد جمع اللوحات التي رسمها في العراق ولوحة عن الأقصر وبعض الرسوم الملونة وذهب إلى كليته لإستعارة رسوم مشروع تخرجه، كما أُعلن عن المعرض في جريدة الأهرام بيد الصحفي الكبير "كمال الملاخ" الذي دعمه هو الآخر وقرر تصوير لوحاته، ونجح المعرض نجاحا باهرا وبيعت العديد من لوحاته.
تحدث "عبلة" عن أمه الحنون التي كانت تحبه كثيرا عن باقي أخواته، ووالده الذي لم يكن راغبا في عمله بالفن التشكيلي، ولكنه الآخر كان طموحا وسافر العديد من البلدان باحثا عن حلمه، وعمل في ليبيا والعراق حتى انتقل من بلقاس إلى ميت غمر للعمل في صناعة "الأجبان"، وجدته "زكية" التي كانت تحبه كثيرا وأطعمته "قلب ذنب" كي لا يخاف طيلة حياته.
قابل "عبلة" الراحل نجيب محفوظ الذي أشاد بفنه وبأهمية ما يعبر عنه، وصلاح مرعي الذي دعمه كثيرا وشادي عبد السلام الذي اصطحبه في زيارة لـ أحمد فؤاد نجم، وعادل الشرقاوي والكاتبة سحر توفيق والفنان سعيد الصدر وحسين بيكار وعباس شهدي والصحفي الكبير كمال الملاخ، وغيرهم الكثيرين.
في نهاية الكتاب وبعدما تغوص معه في رحلته وأحلامه يقرر "عبلة" الذهاب إلى أستراليا لاستكمال دراسته والتعرف على ثقافات أخرى، رغم حنينه الكبير لوطنه وهو به، كما أنه لم يحدثنا عن حياته العاطفية رغم أنه ذكر أن والدته كانت ترغب في زواجه من إحدى فتيات جيرانهم كما أنه كان معجبا بزميلة له في كلية الفنون الجميلة، ولكن تنتهي الأحداث بمشاعره المضطربة أثناء طريقه إلى "أستراليا" ذلك الشخص الذي لم يحبط يوما وكان لديه الرغبة في تعلم كل ما هو جديد مهما كلفه الأمر!
في حُب الفن التشكيلي.. قدم لنا الفنان محمد عبلة كتاب "مصر يا عبلة" لنعيش معه تفاصيل وكواليس حياة الفنانين التشكيلين في مصر، حيث إنه استطاع أن يقدم سردا مميزا ودقيقا عن كافة التفاصيل معبرا عن ذلك بروسماته وصور معظم الشخصيات التي تحدث عنها، حتى تشعر وكأنك من عصرت هذه الأحداث، لذا يعد الكتاب مرجعا لكل من أراد الإبحار في عالم الفن التشكيلي.