عمرو منير دهب يكتب: لو لم يتعرّف إلى سيف الدولة

تقول رواية يوسف البديعي الشهيرة في "الصبح المنبي عن حيثية المتنبي"، نقلاً عن نسخة على الإنترنت، فيما يتعلّق بأول لقاء بين المتنبي وسيف الدولة وشروط الأول على الأخير: "وكان أبو العشائر والي أنطاكية من قبل سيف الدولة ولما قدم سيف الدولة إلى أنطاكية قدّم المتنبي إليه، وأثنى عنده عليه، وعرّفه منزلته من الشعر والأدب واشترط المتنبي على سيف الدولة أول اتصاله به أنه إذا أنشده مديحه لا ينشده إلا وهو قاعد، وأنه لا يكلف تقبيل الأرض بين يديه... ودخل سيف الدولة تحت هذه الشروط".

نأخذ الرواية على علّاتها، وعلّتها ابتداءً أن منزلة الشاعر السامية التي اعتلاها في سماوات الشعر العربي، إضافة إلى طباعه الحادّة والمتقلّبة، قد سوّغت كل طريف من أخباره وسيرته؛ وليس في نيّتنا على كل حال التشكيك في قصة شروط المتنبي هذه على سيف الدولة، وإن نكن لسنا ملزمين بتصديقها على أنها حقيقة تاريخية؛ وفي كل الأحوال فإنّ مكانة المتنبي الخاصة عند الأمير الحلبي كانت هي الحقيقة التاريخية، إذا صحّ أن في التاريخ ما يستحق أن يرقى إلى مرتبة الحقيقة التي لا تقبل الجدال، بل إنْ صحّ أن ثمة مطلقاً ما يمكن ان يُسمَّى حقيقة لا تقبل الجدال.

نرشح لك: مسلسلات تبحث عن "تؤام" للمشاركة في دراما رمضان 2025

كان تأثير سيف الدولة على المتنبي بالغ الشدّة والوضوح، ليس لأنه ألهمه أجمل وأعظم قصائده كما يُشاع، وإنما لأنه سلّط عليه أضواء السلطة اللازمة لجذب الأنظار إليه بصورة تليق باستثنائيته. والمقصود بأضواء السلطة هنا الصخبُ – وأرجو أن تجوز مفارقة تفسير الضوء بالصوت – الذي يحفل به بلاط الإمارة وما يعجّ به البلاط من مجالس العلم والأدب ممّا يشكّل مادة بالغة الثراء ليس فقط لإذاعة ما يدور في تلك المجالس من أخبار مثيرة في الآفاق بل ابتداءً لما يؤجّجه المطروحُ من المواد العلمية والأدبية الساخنة في نفس الشاعر من الأفكار والتساؤلات فيبعثه على النقد والتجديد/التطوير الذاتيين دون أن يعي الشاعرُ نفسه ذلك التأثير؛ والمتنبي تحديداً لم يكن غير واعٍ لفضل بلاط سيف الدولة ومجالسه عليه فحسب وإنما هو في الغالب غير مقرّ به أساساً، وذلك بافتراض مواجهته بفكرة مرعبة ومقيتة – بالنسبة له - من ذلك القبيل.

من الجائز أن يكون مجمل ما قاله المتنبي في سيف الدولة من أجمل وأعظم ما أنشد، لكن ذلك لا يعني أنه لم يقل في غيره قصائد موازية جمالاً وعظمة، سواء مع أصحاب المال والنفوذ الأقل سطوة من سيف الدولة أو حتى مع الخصم التاريخي – خصم المتنبي وسيف الدولة على حدّ سواء – كافور الإخشيدي، أو حتى في غير ذلك من المقامات كما هو الحال مع ما أرجو أن يجوز وصفه بالمناسبات المجرّدة كقصائد الحكمة الخالصة على سبيل المثال.

من قصائد شاعرنا البديعة في غير سيف الدولة - على سبيل المثال العابر - تلك التي اشتهرت بالديناريّة كون علي بن منصور الحاجب لم يكافئه عليها سوى بدينار واحد؛ وهذه رواية مثيرة تحتمل الصدق مثلما تحتمل الافتراء في ضوء ما أشرنا إليه من إغراء سيرة شاعرنا المجيد بحشد كل ما هو غريب وطريف في ثناياها. اللافت – إذا صحّت رواية الدينار هذه – أن المتنبي تقريباً لم يصف أحداً بالسخاء كما فعل في هذه القصيدة مع علي الحاجب:

ملِكٌ سِنانُ قَناتِهِ وَبَنانُهُ ** يَتَبارَيانِ دَماً وَعُرفاً ساكِبا

يَستَصغِرُ الخَطَرَ الكَبيرَ لِوَفدِهِ ** وَيَظُنُّ دِجلَةَ لَيسَ تَكفي شارِبا

كَرَماً فَلَو حَدَّثتَهُ عَن نَفسِهِ ** بِعَظيمِ ما صَنَعَت لَظَنَّكَ كاذِبا

وَدَعَوهُ مِن فَرطِ السَخاءِ مُبَذِّراً ** وَدَعَوهُ مِن غَصبِ النُفوسِ الغاصِبا

هَذا الَّذي أَفنى النُضارَ مَواهِباً ** وَعِداهُ قَتلاً وَالزَمانَ تَجارِبا

وَمُخَيِّبُ العُذّالِ فيما أَمَّلوا ** مِنهُ وَلَيسَ يَرُدُّ كَفّاً خائِبا

كَالبَحرِ يَقذِفُ لِلقَريبِ جَواهِراً ** جوداً وَيَبعَثُ لِلبَعيدِ سَحائِبا

أَمُهَجِّنَ الكُرَماءِ وَالمُزري بِهِم ** وَتَروكَ كُلِّ كَريمِ قَومٍ عاتِبا

وَعَطاءَ مالٍ لَو عَداهُ طالِبٌ ** أَنفَقتَهُ في أَن تُلاقِيَ طالِبا

تلك أبيات مفرّقة من الدينارية على سبيل المثال العابر كما أشرنا لما قاله المتنبي جمالاً وعظمة – من الوجهة الفنية المحضة - في غير سيف الدولة، ومن ذلك – أيضاً على سبيل المثال في السياق ذاته – قصيدته في رثاء أبي شجاع فاتك:

الحُزنُ يُقلِقُ وَالتَجَمُّلُ يَردَعُ ** وَالدَمعُ بَينَهُما عَصِيٌّ طَيِّعُ

وقصيدته في كافور:

منِ الجَآذِرُ في زِيِّ الأَعاريبِ ** حُمرَ الحُلى وَالمَطايا وَالجَلابيبِ

وفي كافور أيضاً

كفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا ** وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا

وأيضاً:

أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ ** وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجرِ وَالوَصلُ أَعجَبُ

وفي محمد بن أوس الأزدي:

أرَقٌ عَلى أَرَقٍ وَمِثلِيَ يَأرَقُ ** وَجَوىً يَزيدُ وَعَبرَةٌ تَتَرَقرَقُ

وفي أبي الفضل الأنطاكي:

لَكِ يا مَنازِلُ في القُلوبِ مَنازِلُ ** أَقفَرتِ أَنتِ وَهُنَّ مِنكِ أَواهِلُ

وفي فاتك:

لا خَيلَ عِندَكَ تُهديها وَلا مالُ ** فَليُسعِدِ النُطقُ إِن لَم تُسعِدِ الحالُ

وفي عضد الدولة:

مَغاني الشَعبِ طيباً في المَغاني ** بِمَنزِلَةِ الرَبيعِ مِنَ الزَمانِ

وبدون مناسبة:

صَحِبَ النّاسُ قَبلَنا ذا الزّمَانَا ** وَعَنَاهُمْ مِن شأنِهِ مَا عَنَانَا

كل تلك مجرد أمثلة عابرة على بدائع أبي الطيب بعيداً عن حضرة سيف الدولة وفيوض إلهامه، سقناها إشارة إلى أن قلائد المتنبي الفريدة لم تكن فقط في الأمير الحلبي، وأنّ من درره ما قيل في سواه من الناس وفي غير مجالسه من المقامات على طول ما شرّق شاعرنا وغرّب في الأرض فقابل مَن قابل من نُخب الناس في عصره ودهمائهم.

إذا كانت "السيفيّات" من أنضج وأجمل ما صدح به المتنبي، فإن فضلها – والحال كما عرضنا - ليس في كونها أجود قصائده قدرَ ما هو في الهالة التي أحاطت بها تلك "السيفيّات" تاجَ شاعرِنا العظيم، هالة الإعلام الذي ينشأ في بلاط الملوك والسلاطين ويذيع منه كما لا يفعل في أي مكان آخر؛ فبدون سيف الدولة كان المتنبي سيغدو شاعراً عظيماً ذا قصائد خالدة، لكنه لم يكن ليغدو ذلك الشاعر الاستثنائي على الأرجح، ففضل سيف الدولة على المتنبي بذاك في إعلامه أكثر مما هو في إلهامه.