عمرو منير دهب يكتب: شبكة علاقات المتنبي

سعيد بن عبد الله بن الحسين الكلابي القيسي، أبو المنتصر شجاع الأزدي، علي بن أحمد الطائي، شجاع بن محمد الطائي، عبد الله وأخوه أبو عبادة ابنا يحيى بن البحتري الشَّاعِر، محمد بن زريق، ساور بن محمد الرومي، عبد الرحمن بن المبارك الأنطاكي. هذه ليست شبكة علاقات المتنبي وإنما أسماء منتقاة لبعض ممدوحيه، نقلاً عن "مع المتنبي" لطه حسين من نسخة على الإنترنت. بل لا يمكن القول حتى بأن تلك كانت شبكة علاقات شاعرنا في "سوريا الشمالية/شمال الشام"، بحسب التقسيم الذي ورد في الكتاب إشارة إلى الطريق التي سلكها المتنبي في مرحلة باكرة من حياته عقب خروجه من العراق قاصداً الشام.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: لو لم يتعرّف إلى سيف الدولة

نسج شاعرُنا الكبير على مدى حياته علاقات كثيرة، بعضها متقاطع وبعضها متوازٍ، وهي في مجملها شديدة الاضطراب بالنظر إلى قلق الرجل الذي لا يتمثّل فقط في كثرة ترحاله (عَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي ** أُوَجِّهُها جَنوباً أَو شَمالا) وإنما في طبعه الثائر حتى وهو مقيم معزّز في حضرة أحبّ ممدوحيه إلى قلبه.

وكما جاء في "مع المتنبي"، فإن الرجل وهو يتنقّل قد "مدح... جماعة من رؤساء البادية وأغنياء الحاضرة وأوساطها، وأصحاب المناصب فيها"، ذلك بالطبع على سبيل المثال للمرحلة التي يشير إليها المؤلف الكبير من رحلة الشاعر العظيم. وإذا كان سيف الدولة بمثابة إحدى الذرى التي بلغها المتنبي خلال تطوافه في الآفاق، سواء من حيث مكانة الأمير الحلبي أو بالنظر إلى الحظوة الخاصة لدى الممدوح أو في ضوء ما جمعه من الثروة نظير مدائحه، فإن أرفع الذرى التي وصل إليها شاعرنا كانت لدى كافور الإخشيدي، وذلك من حيث سعة سلطان الحاكم الممدوح وبالنظر إلى البعد الدرامي الاستثنائي ضمن العلاقة الاستثنائية بدورها.

هل كان سيف الدولة وكافور بمثابة الذروة في شبكة علاقات المتنبي إذن؟ في الواقع، ربما كان بلاط سيف الدولة المدى الأوسع – زماناً - الذي كان في إمكان الرجل أن ينشئ فيه علاقات ممتدة مع النافذين في مكان بعينه، لكن شاعرنا كما هو معروف لم يكن يعترف بنافذ على أي صعيد سوى ذاته غير مستثنٍ أحداً حتى ممدوحه/الأمير نفسه إلّا بقدر ما يستجيب الأخير إلى مطالبه مهما تبلغ جنونيّتها. وكذلك كان الحال في بلاط كافور (الأوسع نطاقاً بحساب الرقع التي امتد فيها سلطان الحاكم)، فمَن في البلاط من الوزراء ورجال الدولة كانوا وسيلة ليس إلى العطايا بصفة عامة وإنما إلى ضيعة أو ولاية على وجه التخصيص بصريح العبارة هذه المرّة؛ وإن يكن شاعرنا لا يتورّع عن استغلال شبكة علاقات البلاط أو أي مكان لصالحه، فقد اشرأبّ من أسوار قصور كافور لا لمجرد النظر إلى أبي شجاع فاتك (المجنون) وإنما ليمدحه متقرّباً إليه في محاولة لم يُكتب لها النجاح للتذاكي على كافور الأستاذ.

لمزيد من الدقة، فإنه لا بلاط سيف الدولة ولا سلطان كافور كان يعني الكثير بالنسبة لشاعرنا العظيم غريب الأطوار هذا، فهو لم يكن معنيّاً باستغلال شبكات العلاقات التي يجدها منسوجة حيثما حلّ ضيفاً أو مقيماً لدى أيٍّ من ممدوحيه على اختلاف درجاتهم في الثروة والسلطان بقدر ما كان حريصاً على أن ينسج شبكات علاقاته الخاصة بيديه هو لا بيدَي زيد أو عمرو من الأمراء والحكّام.

ولعل الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان الشهير بأبي العشائر كان بمثابة العلامة الفارقة في مسيرة العلاقات العامة لدى المتنبي، فهو لا غير مَن قدّمه خير تقديم إلى سيف الدولة الذي يمكن النظر إليه بدوره على أنه أقصى ما بلغته من الغايات المادية والمعنوية شبكاتُ علاقات شاعرنا وهي تتقاذف به في كل اتجاه، وذلك حتى قياساً إلى كافور الذي كانت علاقته بالمتنبي قصيرة نسبياً وشديدة الاضطراب بما لا يدع مجالاً لمقارنتها بعلاقته بسيف الدولة رغم نهاية العلاقة بالغة الخصوصية مع الأمير الحمداني نهاية "شبه تراجيدية".

شبكة العلاقات بالغة الأهمية في كل مجال مهما تبلغ عبقرية المبدع، وشاعرنا العظيم هذا كان بارعاً في نسج شباك علاقاته الاجتماعية/السياسية ولكن على طريقته الخاصة كما رأينا. كان يصنع علاقاته بحيث تقوم على أساس من التكافؤ بينه وبين ممدوحيه؛ ولأن ذلك غير واقعي فإنه يعرف كيف يصنع تكافؤاً متوهّماً، وهذا الوهم في التكافؤ لا ينطلي بطبيعة الحال على ممدوحين من طراز سيف الدولة على سبيل المثال، لكنه ينطلي ببراعة على معجبيه في كل مكان وزمان.

ومثلما أن شاعرنا كان بارعاً في نسج علاقات تبدو مستحيلة، فإنه كان بارعاً أيضاً في تدميرها لسبب واهٍ، أو حتى بلا سبب؛ وإن يكن ما نراه سبباً واهياً أو "لا سبب" يشكّل بالنسبة له كلّ شيء، فمماطلته بما وُعد به جريمة لا تُغتفر عنده. ولن نستشهد في هذا المقام بأقصى تدميراته الانتقامية مع كافور بل بـ "تعريضه" بسيف الدولة الذي لا تفوت أبا العلاء الإشارةُ إليه في معرض شرحه اليائيّة الشهيرة في مدح كافور، وهو تعريض إلى التصريح أقرب، رمى فيه محبوبَه الحمداني بالغدر والأذى والتظاهر بالسخاء وبـ"تهمة" بياض العين الذي يهون مقارنة بسوادها؛ فهو بذلك يصرّ على أن يظلّ عنصرياً في مدح كافور وفي هجائه على حدّ سواء:

حَبَبتُكَ قَلبي قَبلَ حُبِّكَ مَن نَأى ** وَقَد كانَ غَدّاراً فَكُن أَنتَ وافِيا

وَأَعلَمُ أَنَّ البَينَ يُشكيكَ بَعدَهُ ** فَلَستَ فُؤادي إِن رَأَيتُكَ شاكِيا

فَإِنَّ دُموعَ العَينِ غُدرٌ بِرَبِّها ** إِذا كُنَّ إِثرَ الغادِرينَ جَوارِيا

إِذا الجودُ لَم يُرزَق خَلاصاً مِنَ الأَذى**فَلا الحَمدُ مَكسوباً وَلا المالُ باقِيا

وَلِلنَفسِ أَخلاقٌ تَدُلُّ عَلى الفَتى ** أَكانَ سَخاءً ما أَتى أَم تَساخِيا

أَقِلَّ اِشتِياقاً أَيُّها القَلبُ رُبَّما ** رَأَيتُكَ تُصفي الوُدَّ مَن لَيسَ جازِيا

قواصِدَ كافورٍ تَوارِكَ غَيرِهِ ** وَمَن قَصَدَ البَحرَ اِستَقَلُّ السَواقِيا

فَجاءَت بِنا إِنسانَ عَينِ زَمانِهِ ** وَخَلَّت بَياضاً خَلفَها وَمَآقِيا

واللافت أنّ الأبيات أعلاه تضمر بين سطورها عشقاً عميقاً من شاعرنا تجاه سيف الدولة، فهو عندما أراد أن يذمّه قسّم ذاته إلى قسمين: هو وقلبه، ثم شرع في مخاطبة قلبه ومحاجّته/تعنيفه لبقائه على حب الأمير الغادر، وكأنه بذلك يحتفظ بـ"خط رجعة" ذاتيّ إذا لامته نفسه لاحقاً على تغيّره تجاه محبوبه الأمير، وذلك على اعتبار أن جزءاً منه ظلّ وفيّاً لم يتبدّل، وجزؤه ذاك ليس سوى القلب منبع الهوى ومناط الوفاء كما في التراث العربي والإنساني عامةً.

وإذا بدت علاقة شاعرنا بسيف الدولة شديدة الخصوصية حين تداعت بقدر ما ظلّت شديدة الخصوصية إبّان صفائها، فإن من سمات المتنبي إذ يشرع في فضّ شباك علاقاته أحياناً أن يعمد إلى سياسة "الأرض المحروقة"، وأشهر الأمثلة على ذلك علاقته المدمَّرة مع كافور؛ والواقع أنه بهجائه مفرط الإقذاع ذاك لم يدمّر العلاقة فحسب وإنما دمّر كافوراً نفسه بحيث لا يجد الشعراء من بعدُ ما يليق لمدح الحاكم الإخشيدي.

ولكنّ المديح بضاعة الشعراء التي يطلبون عيشهم بها، لذلك لم يكفّ الشعراء من بعد المتنبي عن التزلّف إلى كافور والثناء عليه، تماماً كما لم يكفّوا قبلها عن التقرّب إلى سيف الدولة ومدحه مهما يكن كبيرُهم الذي فاقهم في الشعر والسحر قد اجتهد لحرق أرض/بلاط ممدوحيه بحيث لا يستفيد من الممدوح أو البلاط شاعر بعده.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])