مع المتنبي العظيم نحن على الأرجح أمام أكبر مضلّل، ليس في تاريخ الشعر العربي فحسب وإنما في تاريخ الإعلام العربي عموماً؛ ذلك أن سطوة تضليله قد تجاوزت إلى حيث طغت على وجدان العرب بخصوصية عرضنا لبعض أوجهها من قبل وسنعرض لها في مقامنا هذا بمزيد من التدقيق؛ ومعلوم أن وجدان العرب التقليدي يعوّل كثيراً على الشعر في ميوله وانفعالاته، بل في مُثُله ومرجعيّاته الأخلاقية على حدّ سواء.
"أكبر مضلّل" التي رمينا بها شاعرنا العظيم تعني ضمنيّاً أن ثمة مضلِّلين من الشعراء غيره، ولن نقول بأن تلك حقيقة بديهية فحسب وإنما هي ممّا قام عليه الشعر العربي إجمالاً بوصفه وسيلة الإعلام الأولى لدى العرب، وربما الوحيدة إلى أمد طويل؛ والإعلام في كل زمان ومكان ينقل الحقيقة من وجهة نظر الزمان والمكان الذي ينتمي إليهما فيما لا يُعدّ جريمة بقدر ما هو أمر واقع مستحيل التغيير.
الواقع أن مصطلح "التضليل" – وإن يكن دقيقاً – قد يبدو مجحفاً في حق الشعر العربي، ومن قبل في حق نمط حياة العرب ووجدانهم الجمعي؛ فبدون تأمّل المرجعية التاريخية ليس من الممكن الوقوف على أسباب وأبعاد المراد ممّا وصفناه بالتضليل الإعلامي في الشعر العربي خاصة.
قام الشعر على المبالغة لأن حياة العرب قامت أساساً على تلك النزعة بصفة عامة، ومن أبلغ الأدلة على هذا بسبيل المثال قول أبي فراس:
وَنَحنُ أُناسٌ لا تَوَسُّطَ عِندَنا ** لَنا الصَدرُ دونَ العالَمينَ أَوِ القَبرُ
ومن قبله قول عمرو بن كلثوم:
وَنَشرَبُ إِن وَرَدنا الماءَ صَفواً ** وَيَشرَبُ غَيرُنا كَدَراً وَطينا
فالشاعران وإن كانا يعنيان قومَيهما بطبيعة الحال، فقد شكّل ما لهجا به حالَ كل قبيلة عربية، بل حال كل إنسان عربي. بذلك، تغدو المبالغة تمثيلاً لحظ العرب الذي يرتضونه أو يجدون أنفسهم مكرهين على قبوله على الصعيدين المادي والوجداني: إمّا الماء (الصدر) وإمّا الطين (القبر). وعليه، فإن الشعر/الإعلام العربي لن يعكس تلك القسمة فحسب وإنما سيحرص على السعي إلى تضخيمها بحيث تبدو صدراً عظيماً لقبيلة الشاعر وقبراً سحيقاً للقبيلة المنافسة.
لم يكن المتنبي إذن بدعاً في تمجيد جماعته والحطّ من قدر الجماعة المقابلة، ولم يكن بدعاً كذلك حين استبدل الجماعة بالقبيلة، إذ لم تعد القبيلة في العصر العباسي مدارَ ديوان الشاعر وإنما الممدوحُ وقومُه/إمارتُه، وذلك على مدى إقامة الشاعر بين ظهرانَي الممدوح وقومه وما يحظى به من الحفاوة والتبجيل.
الذي كان المتنبي بدعاً فيه أنه جعل نفسه مدار الفخر ابتداءً، ليس على حساب القبيلة فحسب وإنما بنكرانها جملة واحدة وبنكران أسرته الصغيرة أيضاً ما خلا قصيدة واحدة في رثاء جدّته لا أعلم كيف انسربت إلى ديوانه وقد بدا حريصاً أشدّ الحرص على أن يخفي أيّ أثر عائلي بعيداً عن شعره.
شاعرنا العظيم استحق تحديداً لقب أكبر مضلّل في تاريخ الشعر/الإعلام العربي لأنه بلغ الغاية في إقناع الجماهير بالتعاطف مع رواياته للأحداث وهي تعلم أنه يكذب. وقد اجترح المتنبي تزويرين رئيسين: الأول على صعيد حياته الشخصية والثاني فيما يتعلّق بكل ممدوح قصده، أو – للدقة – بكل موضوع طرقه؛ وأبرز مواضيعه العامة التي زوّرها ببراعة منقطعة النظير هما سيف الدولة الحمداني وكافور الإخشيدي، كونهما بمثابة الذروتين الدراميتين في حياة شاعرنا المجيد كما أشرنا من قبل.
أمّا تزويره/تضليله المتعلّق بسيرته الذاتية فبيانه متاح بجلاء في مبالغاته التي يطفح بها ديوانه تمجيداً خيالياً للذات، وإن يكن الدليل الأبلغ يكمن بصورة محدّدة في تداعياته هو نفسه على طرفي نقيض من السموّ الأسطوري والسقوط المريع.
وإذا كان شاعرنا لا يأبه بما يمكن أن يطاله من التهم العقيدية في تبرير مسيرة البشر في ظهور جدودهم، فإن من تفاسير عصرنا هذا لتلك المسيرة أنها ليست سوى لنقل جيناتنا البشرية من جيل إلى جيل؛ غير أن شاعرنا الكبير جعل الغاية من مسيرته (وبضمير الجمع ربما عنى البشرية جمعاء) هي لقاء كافور الإخشيدي لا غير:
فَتىً ما سَرَينا في ظُهورِ جُدودِنا ** إِلى عَصرِهِ إِلّا نُرَجّي التَلاقِيا
ثم ارتدّ إلى طرف النقيض لينسف سيرته الأولى في تعظيم كافور قائلاً، من جملة ما قال على سبيل المثال:
مِن أَيَّةِ الطُرقِ يَأتي نَحوَكَ الكَرَمُ ** أَينَ المَحاجِمُ يا كافورُ وَالجَلَمُ
جازَ الأُلى مَلَكَت كَفّاكَ قَدرَهُمُ ** فَعُرِّفوا بِكَ أَنَّ الكَلبَ فَوقَهُمُ
وبهذا فإن شاعرنا الجليل جعل مسيرته في ظهور جدوده غايتُها لقاءُ مَن بات أحطّ من الكلب في نظره.
وأمّا تضليله الرأيَ العام فهو ماثل حيثما قصد ممدوحاً فصعد به إلى عنان المكارم والبطولات؛ وإذا كانت هذه معتادة ومبرّرة كما أشرنا بالنظر إلى مبالغات الشعر العربي ومقتضيات طبيعة الحياة الاجتماعية/السياسية العربية التقليدية، فإن المتنبي قد صعد بالتزوير/التضليل إلى ذروة غير مسبوقة مادياً فسجّل رقماً قياسياً لا يزال صامداً، ثم ضمّن تضليله الإعلامي قيمة معنوية تتجاوز كل الآثار المادية حين جعل الجماهير لا تصدّق ذلك التضليل فحسب بل تُؤْثره حتى وهي تعلم كذبه كم سنرى.
الأرجح أن المتنبي وجد بالفعل في سيف الدولة نموذج البطل العربي الذي كان يتطلّع إليه كما قيل مراراً؛ لكنْ عندما أحبطه ذلك البطل بهزائم من العيار الثقيل أمام خصومه تشبّث شاعرنا بحيلة الإنكار ولم يكتف بغضّ الطرف عن تلك الهزائم فحسب بل عكسها في شعره على أنها بطولات وانتصارات خالدة. وانهزامات الأمير الحمداني التي نعنيها بصورة أساسية ليست تلك التي مُني بها أمام القائد الرومي الشهير نقفور فوقاس/فوكاس، فقد حقّق سيف الدولة بدوره بضعة انتصارات لا بأس بها في مواجهة الروم وان كانت مؤقتة ومحدودة بشكل ملحوظ؛ بل نعني – بصورة أشدّ تحديداً في سياقنا هذا - ما مُني به من الهزائم الداحرة أمام كافور صاحب السلطان الأوسع نطاقاً ونفوذاً مثلما أشرنا من قبل.
وإذا اتّسم المتنبي ببعض الحلم تجاه سيف الدولة بعد القطيعة الشهيرة، فإنه جافى المنطق – لا الحلم وحده – كل التجافي في خصامه مع الحاكم الإخشيدي الاستثنائي في عصاميّته وسياساته ومجده الحربي، فبلغ شاعرنا بذلك في معرض التزوير/التضليل ما لم يبلغه شاعر/مسؤول إعلامي قبله ولا بعده من الإبداع ليس في تضخيم الحقيقة فقط وإنما في قلبها رأساً على عقب.
الفريد في تزوير/تضليل شاعرنا أنه وقع عياناً جهاراً، فهو لم يعمد إليه من وراء ظهور متابعيه من الحانقين؛ أمّا معجبوه فيبدو كما لو أنه واجههم بالسؤال: هل تريدونني أن أنقل لكم الصورة الحقيقية مجرّدة أم صورتي المزوّرة الرائعة؟ فأجابوه: بل نريد صورتك البديعة أيها الساحر العظيم.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])