عمرو منير دهب يكتب: بين سيف الدولة وإس دي جونز

لعل متابعي التلفزيونات العربية من "جيل الطيّبين" و"الزمن الجميل" يتذكّرون أشهر نجوم المصارعة في عروضها التي كانت تُبثّ ثمانينيّات القرن الماضي؛ وحيث إن تلك العروض كانت مبنيّة على قدر ظاهر من التمثيل لم يكن غريباً أن يعمد القائمون عليها إلى تغيير اسم المؤسسة التي ترعاها من "الاتحاد العالمي للمصارعة" إلى ما يمكن ترجمته حرفياً بـ"ترفيه المصارعة العالمية"، علماً بأن أولئك المرفِّهين كانوا ولا يزالون من المحترفين لا الهواة.

إس دي (سبيشال ديليفري) جونز لم يكن من أبرع مصارعي تلك الحقبة بحال، لكنه كان أحد أشهر المصارعين الزنوج وأكثرهم حظوة بالتعاطف والمودة والإعجاب من قبل الجماهير؛ لماذا؟ لا أعلم، فقد كان الرجل كثير الهزائم، يدخل مبتهجاً ومبشّراً بالنصر في حفاوة واضحة من الجماهير ثم لا يلبث أن يخرج من الحلبة في أغلب صولاته منهزماً بعد دقائق معدودات. وإذا كان – ولا يزال – سيناريو تلك العروض معدّاً سلفاً بإحكام شديد، فإنه قلّما كان يبرز في صورة الطيّب المحبوب بطلٌ كثير الهزائم كسبيشال ديليفري هذا.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: أكبر تزوير في تاريخ الإعلام العربي!

كشأن الاتحاد العالمي للمصارعة، الذي أصبح الآن كما رأينا "ترفيه المصارعة العالمية"، كان شأن المتنبي مع سيف الدولة؛ فقد ألحّ شاعرنا العظيم على ترسيخ صورة الأمير الحمداني بوصفه بطلاً فوق العادة وهو في الواقع غير ذلك – بل ربما عكس ذلك – بالنظر إلى سجلّاته مع انتصاراته المتواضعة وقد فاقتها كمّاً ونوعاً هزائمُه التي كالها له أعداؤه من كل صوب وقبيل.

كانت قوة إس دي جونز تكمن فقط في ضرباته الرأسية، وفيما عدا رأسه كان الرجل - كما شِيع عنه من بعض المعلقين - ضعيفاً في سائر أجزاء جسده؛ إلى ذلك كان البطل الزنجي متردّداً لا يُحسن اقتناص الفرصة المواتية في حينها الخاطف. أمّا سيف الدولة الحمداني فلا أعلم أين كان مكمن قوته ولا أين تبدّت نقاط ضعفه الجسدية/المادية والتكتيكية/المعنوية، وذلك في معرض تبرير هزائمه الحربية وتداني دولته في محيط جغرافي شديد الضيق قياساً بأعدائه المحيطين به سواء من مخالفي عقيدته من الروم أو إخوته في الدين من المسلمين وأبرزهم ندّه كافور الإخشيدي الذي بزّه باستمرار؛ ونتجاوز عن القبائل العربية التي كانت تثور عليه، فقد أتاحت له تلك القبائل على الأرجح من الانتصارات ما كتبتْه لإس دي جونز سيناريوهاتُ عروض مصارعة المحترفين الترفيهية مع منازلين أقلّ بأساً منه كان لا بدّ من زجّهم لملاقاته من أجل تسجيل بضعة انتصارات تحفظ ماء وجه البطل الزنجي المحبوب وتجبر خواطر عشّاقه المتفرجين.

لا يجب أن يؤخذ ما سبق عل أنه تجريد لسيف الدولة من كل أوجه البطولة، فقد كان الرجل شجاعاً لا ريب، وليس أدلّ على شجاعته من مفارقة هزائمه المتعددة؛ وإذ كان الأمير الحمداني على الأرجح يثمّن قوته الحربية بقدر لا بأس به من الدقة فإن إصراره على خوض معاركه رغم معرفته – كما نفترض - بتفوّق خصومه أبلغُ دليل على شجاعته الصرفة. لكن تلك الشجاعة لم تكن بطولة/فروسية مطلقة بالمدلول الشامل للبطولة/الفروسية، فاكتمال بطولة الفارس منوط – ليس في الثقافة العربية وحدها – بالانتصارات المتوالية والاكتساح العظيم بصفة عامة؛ وما وسم معارك سيف الدولة – بعيداً عن تزوير/تضليل المتنبي البارع – كان الهزائم الصريحة كما رأينا أمام أعدائه من مخالفي دينه وموافقيه على حدّ سواء.

إلى ذلك، لم تخلُ سيرة سيف الدولة من تخاذلات معنوية على صعيد تقييم البطولة/الفروسية الصرفة، فقد أبقى ابن عمّه أبا فراس أسيراً لدى الروم أربعة أعوام أو أكثر ثم فداه بعدها؛ وهو في إبطائه هذا إمّا قاصد بداعي تأديب وتحجيم ابن العم المنافس وإمّا عاجز، وفي الحالين فإن سيف الدولة مقصّر عن بلوغ مقام الفرسان الرفيع؛ فإذا كان متعمّداً فإن تأديب ابن العم المنافس لا يكون عند العدو وإنما في حضرة المؤدّب نفسه، وإذا كان عاجزاً فإن معنى البطولة/الفروسية ينشرخ تلقائياً انشراخاً عميقاً بقلّة الحيلة.

ليس المتنبي وحده، وإنما كذلك المؤرخون الذين أخذوا عن شاعرنا العظيم أو تواطؤوا معه بصورة موازية ذهبوا إلى أن سيف الدولة كان يقاتل في قلب المعركة مع جنوده ويتقدّمهم أحياناً والمتنبي معه ليتسنّى للشاعر وصف المعركة بدقة. إن لم ننفِ ذلك نفياً قاطعاً فلا أقلّ من أن نستبعده استبعاداً شديداً، ليس بداعي تجريد الأمير الحمداني – وشاعره – من البطولة/الفروسية، وإنما بأخذ الأمر بالقياس المنطقي الواقعي، فهل يُعقل – بمثال من أيامنا هذه على سبيل التقريب - أن يذهب القائد الأعلى للجيش/الحاكم ليقاتل بيديه/بندقيّته العدوَّ في ميدان المعركة ومعه وزير إعلامه؟ على مدى التاريخ يتأخر القائد – حكمة ومنطقاً – إلى الوراء لتتاح له إدارة المعركة أو حتى الفرار عند الهزيمة للتمكُّن من إعادة الكرّ (وقد فعلها سيف الدولة مراراً)؛ أمّا الشاعر/وزير الإعلام فمكانه بعيداً عن قلب المعركة، إذ إن وظيفته ليست الرسم الدقيق لصورة الحرب بل تضخيمها - وتزويرها إذا اقتضى الأمر – لصالح دولته، وهو لن يتمكن من فعل ذلك إلّا بخروجه سالماً من المعركة، ما يجعل سلامته – وليس الاقتراب من مواضع الهلاك - هي الأولوية، وقد نهض المتنبي بتلك المهمة الإعلامية كما رأينا أعظم نهوض.

كان سيف الدولة على كل حال من القادة الأعظم حظاً على مدار التاريخ بمؤسسته الإعلامية، بل كان الأعظم حظّاً على الإطلاق بوزير إعلام من طراز منقطع النظير؛ وهو حظ مستحق – وأرجو أن يجوز التعبير – لأن سيف الدولة أفلح في تقدير موهبة المتنبي حقّ قدرها منذ أن قدّمه إليه ابن عمّه أبو العشائر، والأهم أنه صبر صبراً حكيماً على تقلّبات شاعرنا صعب المراس، ما مكّن الأمير الحلبي نهاية المطاف من الخلود في وجدان العرب بما يجاوز أضعافاً كثيرة ما حقّقه بالفعل من البطولات والأمجاد.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ( [email protected])